للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قال ابن معبد: فكنتُ إذا دخلتُ على ملك الروم أراه جبَّارًا عاتيًا جالسًا على تخت، وعليه تاجُه، فدخلتُ عليه يومًا وهو جالس على الأرض كئيبًا حزينًا، فقلت: ما الخبر؟! فقال: مات العبد الصالح عمر، لو كان أحدٌ بعد المسيح يُحيي الموتى لكان عمر. ثم قال: إنِّي لستُ أعجب ممن يُغلق بابه ويرفضُ الدنيا، وإنما العجب ممَّن الدنيا تحت قدميه وهو يرفضُها (١).

وقال ابن أبي الدنيا: أرسل عمر رسولًا إلى القسطنطينية، فخرج يمشي في أزقَّتها، فسمع قارئًا يقرأ القرآن، فوقف عليه، فإذا بأعمى يقرأ القرآن ويطحن في مدار، فسلَّم عليه، فقال: وأنَّى بالسلام في هذه الأرض؟! فأخبره أنَّه رسول عمر وقال له: ما الذي أوقعك ها هنا؟ فقال: أُخذتُ من بعض الطرق، فعرض عليَّ طاغيةُ الروم النصرانية، فأبيتُ، فسمل عينيَّ وصيَّرني إلى هذا الموضع، ويبعث إليَّ في كلِّ يوم بحنطةٍ أطحنُها له.

فلما عاد الرسول إلى عمر أخبره، فبكى [عمر] حتَّى بلَّ الأرضَ من دموعه، وقال له: عُدْ على حالك، وقيل للطاغية: والله لئن لم تبعث بالطحَّان؛ لأَبعثنَّ إليك جنودًا أوَّلُها عندك وآخرها عندي.

فلما بلغه الرسالة قال: ما كنَّا لنُحوج الرَّجل الصالح إلى هذا. وأقام الرسول عندَه أيامًا، ودخل عليه يومًا وهو قاعد على الأرض يبكي فقال له: ما لك؟ فقال: أخبرنا سيدنا المسيح أن الرَّجل الصالح إذا كان بين القوم السوء لم يلبث فيهم إلَّا يسيرًا، ثم يخرجُه الله منهم (٢). فقال له: وما الخبر؟ قال: مات العبد الصالح. قال: فقمتُ وقد يئستُ (٣) من خلاص الطحَّان. فقال: اذهب فخُذ الطحَّان، ما كنتُ لأجيبَه حيًّا وأخالفَه ميِّتًا (٤).


(١) أخرجه بنحوه أبو نعيم في "حلية الأولياء" ٥/ ٢٩٠ - ٢٩١. وأخرجه من طريقه ابن عساكر في "تاريخ دمشق" ٦٥/ ١٣ (طبعة مجمع دمشق- ترجمة محمَّد بن معبد) ولم أقف على الخبر فيما لديّ من كتب ابن أبي الدنيا.
(٢) في (ص): من بيهم.
(٣) في (ص): أيست.
(٤) بنحوه في "سيرد عمر بن عبد العزيز" لابن عبد الحكم ص ١٤٨ - ١٤٩. ولم أقف عليه فيما لديّ من كتب ابن أبي الدنيا.