وحكى الليث بن سعد قال: كنتُ أسمع بأبي حنيفة، فتَتوقُ نفسي إليه، فبينما أنا في المسجد الحرام إذا بالناس مجتمعين على رجلٍ، فدنوتُ من الحلقة ورجلٌ جالس، فقال له رجل: يا أبا حنيفة، إني رجلٌ ذو مال، ولي ولد عاق، أزوِّجُه المرأةَ وأنفق عليه المال الكثير، فيطلقها، فيذهب مالي، وأشتري له الجاريةَ بالألوف، فيعتقها، فيذهب ثمنها، فهل عندك من فَرَجْ؟ فقال أبو حنيفة من غير فكرةٍ ولا رويَّة: نعم أدخله سوق الرقيق، فإذا وقعتْ عينُه على جارية فاشترها لنفسك، ثمَّ زوِّجْهُ إيَّاها، فإنْ طلَّقها رجعت مملوكةً لك، وإن أعتقَها لم ينفذ عتقه.
قال الليث: فوالله ما أعجبني ما رأيتُ من صوابه كما أعجبني ما رأيتُ من سرعةِ جوابه.
وقال شريك القاضي: عَجزت النساءُ أن تلدنَ مثل أبي حنيفة، فقيل له: وكيف؟ قال: كنَّا في جنازة غلامٍ من بني هاشم قد تبعَه وجوهُ الناس وأشرافهم، وإلى جانبي ابنُ شبرمة، فوقف الناس، فقلنا: ما للجنازة لا تنبعث؟ قالوا: خرجت أمُّ الغلام والهةً حاسرةً، وكانت جميلةً، فحلفَ أبوه بطلاقها لترجعن، وحلفتْ هي بصدقةِ ما تملك وعتق عبيدها لا رجعت حتى يصلَّى عليه، وكان في الجنازة علماء الكوفة، فسئلوا عن ذلك، فلم يكن عندهم فَرَج، وكان أبوالغلام قد رأى أبا حنيفة في طرف الناس فجاءه مستصرخًا وأخبره الخبر، فقال: ضعُوا الجنازةَ فوُضِعت، ثم قال للرجل: تقدَّم فصلِّ على ابنك، فصلى عليه، وقال لأمِّه: ارجعي، فقدْ خَرجت من يمينك، احملوا الميِّتَ. فتحيَّر الناس من سرعة فتياه وتدقيقِ فطنته.
وقال شريك القاضي: حدثني عليُّ بن عاصم قال: سألت أبا حنيفة عن درهمٍ لرجل، ودرهمين لآخر، اختلطوا، ثمَّ ضاع درهمان وبقيَ درهم واحد، ولم يُعلم من أيِّ الثلاثة هو، فقال: الدرهمُ الباقي بينهما أثلاثًا، قال: فلقيتُ ابن شبرمة، فسألتُه عنها، فقال: هل سألتَ أحدًا؟ قلت: نعم، أبا حنيفة، قال: فما الذي قال؟ فأخبرتُه فقال: أخطأ، الدرهمُ الباقي بينهما نصفان احتياطًا وتعديلًا للقسمة، فلقيت أبا حنيفة فأخبرته وقلت: خُولفتَ في المسألة، وذكرَ له قول ابن شبرمة -وكان أبو حنيفة لو وزن عقلُه بعقلِ الأرض لرجح عليهم- فقال: إنَّ الثلاثة لَمَّا اختلطت وجبت الشركةُ بينهما، فصار لصاحب الدرهمِ ثلثُ كلِّ درهم، ولصاحب الدرهمين ثلثا كلِّ درهم، فأيُّ درهمٍ