وكانت المواكبُ تغدو وتروح إلى بابها، فكلَّمته يومًا في حاجةٍ لعبد اللهِ بن مالك، فاعتلَّ بعِلَّة، فلم تقبلْها وقالت: لا بدَّ منها، فغضب وقال: ومالك وابنِ مالكٍ ابنِ الفاعلة؟ برئتُ من قرابتي من رسول اللهِ ﷺ لئن بلغني أنَّه وقف ببابك أحدٌ من قوَّادي أو خاصَّتي، لأضربنَّ عنقه، ولأقبضنَّ ماله، ما هذه المواكبُ التي تغدو وتروح إلى بابك في كلِّ يوم؟ أما لكِ مِغزلٌ أو مصحفٌ تشتغلين به، أو بيتٌ يصونك! إياكِ ثم إياك. فانزجرتْ.
ثم إنَّه جمع القوَّاد والخواصَّ وقال: أيُّما خيرٌ أنا أو أنتم؟ قالوا: بل أنت يا أميرَ المؤمنين. قال: فأيُّما خير أمِّي أو أمَّهاتكم؟ قالوا: بل أمُّك. قال: فأيُّكم يحدِّث الرجال بخبر أمِّه فيقولون: ما صنعتْ أمُّ فلان؟ ما قالت أمُّ فلان؟ قالوا: ما نحبُّ ذلك. قال: فما بالُ رجالٍ يأتون أمِّي فيتحدَّثون بحديثها؟! فلمَّا سمعوا ذلك انقطعوا عنها البتَّة، فشقَّ ذلك عليها، فاعتزلته وحلفتْ لا تكلِّمه، فما دخلتْ عليه حتى حضرته الوفاة.
وبعث إليها بأَرُزَّة مسمومةٍ وقال: استطبتُها فأرسلتُ إليكِ منها، وكانت عندها جاريةٌ يقال لها: خالصة، فقالت: أَمسكي حتى تنظري؛ فإنِّي أخاف أن يكونَ فيها شيءٌ تكرهينه، فجاءت بكلبٍ فأكل منها، فتساقط لحمُه، فأَرسل إليها بعد ذلك: كيف رأيتِ الأرزَّة؟ فقالت: طيِّبة، فقال: لو أكلتِ منها لاسترحتُ منك، متى أفلح خليفةٌ له أُمّ!
والثاني: أن سببَ وفاته قَرحةٌ خرجت في جوفه فقتلته.
والثالث: قال سعيدُ بن مسلم: كنتُ بين يدي الهادي بعيساباذَ في بستان، فنظر إلى فرَّاش يعلِّق سِترًا في آخر البستان وهو على سُلَّم، وبين يدي الهادي قوس، فأخذ سهمًا ففوَّقه، وقال: ترى يصل سهمي إلى الفرّاش؟ فقلت له: أَقسمتُ عليك يا أميرَ المؤمنين ألا تفعل، فأبى ورماه، فأَثبت السهمَ بين كتفيه ونشب في الحائط، ومات الفرَّاشُ مكانَه، وأَطرق الهادي وندم، فواللهِ ما برح من مكانه حتى حكَّ ظهرَ قدمه، فطلعتْ في الحال فيه بَثْرة، فتألَّم منها، ففصد فلم يُغنِ عنه الفِصادُ شيئًا، وبقيت مثلَ اللَّوزة، فعاش ثلاثةَ أيامٍ ووقع في الموت، فجاءت الخَيزُران، فأخذت خاتَمَه من يده وهو ينظرُ إليها وليس له حيلة، وقالت: أخوك هارونُ أحقُّ بهذا الأمرِ منك.