عنك خطيئة من خطاياك لم يفعلوا، وإنَّ أشدَّهم لك حبًّا أشدُّهم منك هربًا، فقال له: زدني، فقال: إنَّ في حكمة آلِ داودَ ﵇: وعلى العاقل ألا يغفُلَ عن ثلاثِ ساعات: ساعة يُناجي فيها ربَّه، وساعة يُحاسب فيها نفسَه، وسماعة يخلو فيها بإخوانه الذين يَصدقونه فيها عن عيوبه.
فقال له: هل عليك دَيْن؟ قال: نعم، لربِّي لم يحاسبني عليه، فالويلُ لي إنْ سألني، والويلُ لي إنْ ناقشني، والويلُ لي إن لم أُلهم حجَّتي، فقال هارون: إنَّما أَعني دَينَ العباد، فقال: إنَّ ربّي لم يأمرني بهذا، وأمرني أن أوحِّدَه وأُطيعَ أمره، فقال ﷿: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إلا لِيَعْبُدُونِ (٥٦)﴾ [الذاريات: ٥٦] فقال: هذه ألفُ دينار، خذها فأَنفِقها على عيالك وتقوَّ بها على عبادتك، فقال: سبحانَ الله! أنا أدلُّك على طريق النَّجاةِ وأنت تُقابلُني بمثلِ هذا، سلَّمك الله ووفَقك.
ثم صمت ولم يكلِّمنا، وخرجنا من عنده، فلمَّا صرنا على البابِ قال هارون: يا عبَّاسي، إذا دللتَني على رجلٍ فدلَّني على مثلِ هذا، هذا سيّد المسلمين.
قال: فدخلت عليه امرأة من نسائه فقالت: يا أبا عليّ، قد ترى ما نحن فيه من ضيقِ الحال، فلو قبلتَ عطيةَ هذا المال فتفرِّجنا به، فقال: مَثَلي ومثلُكم كمثل قومٍ لهم بعيرٌ يأكلون من كَسْبه، فلمَّا كبر نحروه وأَكلوا لحمَه.
فلما سمع هارونُ هذا قال: ندخل فعسى أن يقبلَ المال، فدخل، وخرج الفضيلُ فجلس في السَّطح على باب الغرفة، وجاء هارونُ فجلس إلى جنبه، وجعل يكلِّمه وهو لا يُجيبه، فبينما نحن كذلك، إذ خرتجا جارية سوداءُ فقالت: يا هذا، قد آَذيتَ الشيخَ منذ الليلةِ فانصرف، قال: فانصرفنا.
وقال سفيانُ بن عُيينة: حجَّ هارونُ فقال لي: أريد أن أَلقَى الفضيلَ لعل الله أن يُحدِثَ في عظةً أنتفعُ بها، فقلت: واللهِ إن ذلك لَحبيب إليّ، ولكنه رجل قد أخذ نفسَه بخدمة الله، فما لأحدٍ فيه حظّ، وأكرهُ أن تراه مشغولًا بنفسه فتتوهَّمَ فيه جفاء، وواللهِ إنه الرجلُ الكريمُ العِشرةِ الحسنُ الخلُق، فقال: واللهِ ما عزمتُ على لقائه حتى وطَّنت نفسي على احتمال أخلاقِه، ويحك يا سفيان، إنَّ شرفَ التقوى شرفٌ لا يُزاحَم عليه بإمرةٍ ولا خلافة.