فيه واعتزمْ عليه؛ فإنَّا نرجو أن يكونَ صوابًا ويجعلَ الله فيه الخِيرَة، فقال: وما هو؟ قالوا: قد تفرَّق عنك الناس، وأحاط بك عدوُّك من كل جانب، وقد بقي عندك من خيلك ألفُ فرسٍ كان خيارها وجيادها، فنحمل عليها مَن قد عرفناه بمحبَّتك ومُناصَحتك من الأبناء، ونخرج من بعض الأبواب ليلًا، فنلحقُ بالجزيرة والشام ونصير في مملكةٍ واسعة، ويقضي اللهُ ما يشاء، فقال لهم: نِعْمَ ما رأيتم. وعزم على ذلك.
وكتب إلى طاهرٍ عيونُه بذلك، فكتب إلى سليمانَ بن أبي جعفرٍ ومحمَّد بن عيسى بن نَهيك والسِّندي بنِ شاهك يقول: واللهِ ليِّن لم تَصدِفوه عن هذا الرأيِ لأفعلنَّ بكم ولأصْنَعَن، وتهدَّدهم بأخذ الضِّياع وقتلِ النفوس، فدخلوا على محمد وقالوا: تذكَر الله في نفسك، فإنَّ الذين أشاروا عليك بهذا قد انتشر عنهم أنَّهم باشروا الحربَ وجدُّوا في قتال طاهر، ولا أمانَ لهم عنده، ولسنا نأمن أنَّك إذا حصلت في أيديهم أن يأخذوك أسيرًا فيتقرَّبوا بك إلى عدوِّك، فقال: ما أخرج.
وكان حاتم بنُ الصقر والإفريقيُّ ومَن أشار على محمَّد بالخروج في الرِّواق يسمعون ما يقول سليمانُ وأصحابه لمحمَّد، وهم معه في بيت، فقال حاتمٌ والإِفريقي: ادخلوا بنا نقتل سليمان وأصحابه؛ فإنَّهم مع طاهرٍ في الباطن، فقال بعضهم: ما هذا مصلحة، نحن في حربٍ من خارجٍ ونعمل لنا حربًا من داخل؟! فكفُّوا.
ووقع في قلب محمَّد ما قالوه، فرجع عمَّا كان قد عزم عليه، وأشار عليه سليمانُ وأصحابه بطلب الأمانِ والخروجِ إلى هَرْثَمَة، وقالوا: إنَّما قُصارى ذلك السَّلامة، وأن يُنزلَك أخوك في مكانٍ تراه، ويجعلَ لك كل ما يُصلحك، وليس عليك منه بأس.
فعزم على الخروج إلى هَرْثَمَة، وأشار عليه بعضُهم بالخروج إلى طاهر، فقال محمَّد: إنِّي أكره الخروج إلى طاهر، ونفسي تأبى ذلك؛ لأنَي رأيت في منامي كأنِّي قائم على حائطٍ من آجُرّ، وهو شاهقٌ في السماء وعريضُ الأساس وَثيق، لم أرَ في الدنيا شيئًا يُشبهه في طوله وعرضه، وعليَّ سَوادي ومِنْطَقَتي وسيفي وقَلَنسُوَتي، وطاهر قائمٌ في أصل الحائطِ وبيده مِعوَل، فما زال يضرب أصلَ الحائط حتى سقط وسقطت، ونَدَرَتْ قَلنسوتي عن رأسي، وأنا أتطيَّر من طاهرٍ وأَستوحش منه لذلك، وأما هَرْثَمَةُ فهو مولانا وبمنزلة الوالدِ عندي، فأنا به أشدُّ أنسًا وأوثقُ نفسًا من طاهر.