ولا تظن بما ذكرته من حال بنى إسرائيل أنهم فى ذلك أعلى من هذه الأمة، فأما المزامير فحسبك ما ذكر من حال أبى موسى الأشعرى- رضى الله عنه-، وأما الموت من الموعظة شوقا أو خوفا فلنا فيه طريقان:
أحدهما: أن نقول إن القوة التى أوتيتها هذه الأمة تقاوم الأحوال الواردة عليها فتتماسك الحياة، فلا تفنى القوة الجسمانية بل القوة الروحانية، والتأييدات الإلهية. فلفرط قوة هذه الأمة- إن شاء الله تعالى- تقارب عند سلفها الصالح ما بين حال سماع الموعظة وحال عدم سماعها، لتوالى أحوال الذكر وأطوار اليقين. وقد قال بعضهم: لو كشف الغطاء ما ازددت يقينا.
فتماسك قوة السلف عند واردات الأحوال هو الذى فرق بينهم وبين من قبلهم. ألا ترى أن داود وسليمان- عليهما السلام- وهما أصحاب المزامير- لم يتفق لهما الموت كما اتفق لمن مات، وما ذلك من تقصيرهما فى الخوف والشوق، ولكن من القوة الربانية التى أمدهما بها. ولا خلاف بأن داود- عليه السّلام- وإن لم يمت من الذكر أفضل ممن مات من أمته، وأما نواحه على كونه لم يمت فذلك من التواضع الذى يزيده شرفا، لا من التقصير عن آحاد أمته، بل لارتفاعه عنهم درجات وزلفى، وإلى هذه القوة الإلهية أشار أبو بكر الصديق- رضى الله عنه- وقد رأى إنسانا يبكى من الموعظة فقال: هكذا كنا حتى قست القلوب. عبر عن القوة بالقسوة تواضعا، ومرتبته بحمد الله محفوظة ومنزلته مرفوعة.
والطريق الثانى: أن نقول: قد روي ما لا يحصى كثرة عن هذه الأمة مثل ما اتفق فى مجلس داود- عليه السّلام- من موت المستمعين للذكر فى مجلس السماع قديما وحديثا، ولأبى إسحاق الثعلبى جزء فى قتلى القرآن رويناه، وعندى من ذلك جملة أرجو تدوينها، بل قد روي عن كثير من المريدين أنهم ماتوا بمجرد النظر إلى المشايخ، كما حكى أن مريدا لأبى تراب النخشبى كان يتجلى له الحق تعالى فى كل يوم مرات، فقال له أبو تراب: لو رأيت أبا يزيد لرأيت أمرا عظيما، فلما ارتحل المريد مع شيخه أبى تراب النخشبى لأبى يزيد