وفى لفظ: قال جابر بن عبد الله: كان المسجد مسقوفا على جذوع نخل، فكان النبى- صلى الله عليه وسلم- إذا خطب يقوم إلى جذع منها، فلما صنع له المنبر سمعنا لذلك الجذع صوتا كصوت العشار- وهو بكسر العين: النوق الحوامل- وفى حديث أبى الزبير عن جابر- عند النسائى فى الكبرى-: اضطربت تلك السارية كحنين الناقة الخلوج. انتهى. والخلوج: - بفتح الخاء المعجمة، وضم اللام الخفيفة وآخره جيم- الناقة التى انتزع منها ولدها. والحنين: صوت المتألم المشتاق عند الفراق.
وإنما يشتاق إلى بركة الرسول ويتأسف على مفارقته أعقل العقلاء.
والعقل والحنين بهذا الاعتبار يستدعى الحياة، وهذا يدل على أن الله عز وجل خلق فيه الحياة والعقل والشوق ولهذا حنّ وأنّ. فإن قيل: مذهب الشيخ أبى الحسن الأشعرى: أن الأصوات لا يستلزم خلقها فى المحل خلق الحياة ولا العقل.
أجيب: بأنه كذلك، ونحن لم نجعل الحياة لازمة، إلا أن الشوق إلى الحق شوقا معنويّا عقليّا لا طبيعيا بهيميّا. ومذهب الشيخ أبى الحسن أن الذكر المعنوى والكلام النفسى يستلزمان الحياة استلزام العلم لها. وقد بينا أن هذه المعانى وجدت فى الجذع، وأطلق الحاضرون حينئذ على صوته أنه حنين، وفهموا أنه شوق إلى الذكر وإلى مقام الحبيب عنده، وقد عامله النبى- صلى الله عليه وسلم- هذه المعاملة، فالتزمه كما يلتزم الغائب أهله وأعزته يبرد غليل شوقهم إليه وأسفهم عليه، ولله در القائل:
وحن إليه الجذع شوقا ورقة ... ورجع صوتا كالعشار مرددا
فبادره ضما فقر لوقته ... لكل امرئ من دهره ما تعودا
وأما حديث أنس، فرواه أبو يعلى الموصلى بلفظ: إن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- كان يوم الجمعة يسند ظهره إلى جذع منصوب فى المسجد يخطب الناس، فجاءه رومى فقال: ألا أصنع لك شيئا تقعد عليه كأنك قائم؟ فصنع له منبرا له درجتان ويقعد على الثالثة، فلما قعد رسول الله- صلى الله عليه وسلم- على المنبر