فحضرتني النية فصرت إلى صحن المسجد، فقلت: يا قوم تقربوا إلى الله بالصّدقة فإنه ما تقرب إليه بشيء أفضل منها، ثم رميت بكسائي ثم قلت: اللهم هذا كسائي وهو جهدي وفوق طاقتي، فجعل الناس يتصدقون ويعطوني ويلقون علي الكساء حتى جعلت المرأة تلقي خرصها وسخابها (١) حتى فاض الكساء من أطرافه، ثم هطلت السماء فخرج الناس في الطين والمطر، فلما صليت العصر، قلت: يا أهل مصر أنا رجل غريب ولا علم لي بفقرائكم، فأين فقهاؤكم؟ فدفعت إلى اللّيث بن سعد، وابن لهيعة، فنظر إلى كثرة المال فقال أحدهما لصاحبه: لا تحرك، ووكلوا به الثقات حتى أصبحوا، فرحت- أو قال: فأدلجت- إلى الإسكندرية وأقمت بها شهرين، فبينا أنا أطوف على حصنها وأكبر، فإذا أنا برجل يرمقني، فقلت: مالك؟ قال: يا هذا أنت قدمت مصر؟ قلت: نعم! قال: أنت المتكلم يوم الجمعة؟ قال: قلت: نعم! قال: فإنك صرت فتنة على أهل مصر، قلت: وما ذاك؟ قال: قالوا: كان ذاك الخضر دعا فاستجيب له، قال: قلت: ما كان الخضر بل أنا العبد الخاطئ قال: فأدلجت فقدمت مصر، فلقيت اللّيث بن سعد، فلما نظر إلى قال: أنت المتكلم يوم الجمعة؟ قال: قلت:
نعم، قال: فهل لك في المقام عندنا؟ قال: قلت: وكيف أقيم وما أملك إلا جبتي وسراويلي؟ قال: قد أقطعتك خمسة عشر فدانا. ثم صرت إلى ابن لهيعة فقال لي مثل مقالته وأقطعني خمسة فدادين، فأقام بمصر.
أخبرنا هبة الله بن الحسن بن منصور الطبري، أخبرنا أحمد بن محمّد بن عمران، حدّثنا عبد الله بن سليمان، حدّثنا علي بن خشرم قال: سمعت منصور بن عمار قال- وبعضه حدثني به أبي عن قتيبة، عن منصور- قال: قدمت مصر وبها قحط، فتكلمت فأخرج الناس صدقات كثيرة، فأخذت فأتى بي إلى اللّيث بن سعد، فقال:
ما حملك علي أن تكلمت في بلدنا بغير أمرنا؟ قال: قلت أصلحك الله أعرض عليك، فان كان مكروها نهيتني فانتهيت، وإلا لم ينلني مكروه. فقال: تكلم، فتكلمت، فقال: قم، لا يحل لي أن أسمع هذا الكلام وحدي، فقال لي: ما أقدمك؟ قلت:
قدمت عليك وعلى ابن لهيعة، فلما قدمت عليه بعد ذلك أخرج إلى جارية قيمتها ثلاثمائة دينار، فقال: خذها. فقلت: أصلحك الله معي أهل، قال: تخدمكم. قلت:
جارية بثلاثمائة دينار تخدمنا؟ قال: خذها. فدخلت عليه بعد ذلك، فسكت حتى
(١) الخرص: الحلقة الصغيرة في الأذن. والسخاب: القلادة.