الناس، فبعث عبد الله إلى جارية من جواريه، فحضرت ودعا بثياب وطيب، فكسا القوم، وطيبهم، ووهب الجارية لصاحب المنزل، وقال: هذه أحذق بالغناء من جاريتك.
وسمع سليمان بن عبد الملك مغنيا في عسكره، فقال:
اطلبوه، فجاءوا به، فقال: أعد عليّ ما غنيت به، فغنى وأحفل «١» . وكان سليمان أغير «٢» الناس، فقال لأصحابه:
كأنها والله جرجرة الفحل في الشوك، وما أظن أنثى تسمع هذا إلّا صبت «٣» إليه، ثم أمر به فخصي.
أصل الغناء ومعدنه:
قال أبو المنذر هشام: الغناء على ثلاثة أوجه: النصب والسناد والهزج، فأما النصب، فغناء الفتيان والركبان، وأما السناد: فالثقيل الترجيع الكثير النغمات، وأما الهزج:
فالخفيف كله وهو الذي يستفز القلوب ويهيج الحليم.
وقيل: كان أصل الغناء ومعدنه في أمهات القرى، فاشيا ظاهرا، وهي المدينة والطائف وخيبر وفدك ووادي القرى، ودومة الجندل، واليمامة، وهذه القرى مجامع أسواق العرب.
ويقال: إن أول من صنع العود لامك بن قاين بن آدم، وبكى به على ولده، ويقال: إن صانعه بطليموس صاحب الموسيقى، وهو كتاب اللحون الثمانية، والله سبحانه وتعالى أعلم بحقيقة ذلك، وحسبنا الله، ونعم الوكيل، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
الباب التاسع والستون في ذكر المغنين والمطربين وأخبارهم ونوادر الجلساء في مجالس الرؤساء
قيل: إن أول من غنى في العرب قينتان للنعمان يقال لهما: الجرادتان ومن غنائهما:
ألا يا قين ويحك قم فهينم «٤» ... لعلّ الله يسقينا غماما
وإنما غنتا هذا حين حبس الله عنهم المطر.
وقيل: أول من غنّى في الإسلام الغناء الرقيق طويس وهو الذي علم ابن سريج والدلال نوبة الضحى، وكان يكنى أبا عبد النعيم، ومن غنائه، وهو أول صوت غنى به في الإسلام هذا البيت:
قد براني الشوق حتى ... كدت من وجدي أذوب «٥»
ثم نجم بعد طويس ابن طنبور، وأصله من اليمن، وكان أهزج الناس وأخفهم غناء، ومن غنائه:
وفتيان على شرب جميعا ... دلفت لهم بباطية هدور «٦»
فلا تشرب بلا طرب فإنّي ... رأيت الخيل تشرب بالصفير
ومنهم حكم الوادي، ومن غنائه:
إمدح الكأس ومن أعملها ... واهج قوما قتلونا بالعطش
إنما الراح ربيع باكر ... فإذا ما وافت المرء انتعش
وكان لهارون الرشيد جماعة من المغنين منهم: إبراهيم الموصلي، وابن جامع السهمي وغيرهما، وكان له زامر يقال له: برصوما، وكان إبراهيم أشدهم تصرفا في الغناء، وابن جامع أحلاهم نغمة، فقال الرشيد يوما لبرصوما: ما تقول في ابن جامع؟ قال يا أمير المؤمنين، وما أقول في العسل الذي من حيثما ما ذقته فهو طيب. قال: فإبراهيم الموصلي؟ قال: بستان فيه جميع الأزهار والرياحين.
وكان ابن محرز يغني كل إنسان بما يشتهيه كأنه خلق من قلب كل إنسان. وغنى رجل بحضرة الرشيد بهذه الأبيات:
وأذكر أيام الحمى ثمّ أنثني ... على كبدي من خشية أن تصدّعا
فليست عشيات الحمى برواجع ... عليك ولكن خل عينيك تدمعا