وكان ممن أخرس عثمان بن عفان رضي الله عنه حتى جعل يذهب به ويجاء ولا يستطيع كلاماً.
وأما عبد الله بن أنيس رضي الله عنه فأضنى حتى مات كمداً.
وبلغ أبا بكر الخبر وهو بالسنح، فأقبل وعيناه تهملان، وزفراته تتردد في صدره وغصة ترتفع كقطع الجرة وهو في ذلك جلد العقل والمقالة، حتى دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكب عليه، وكشف عن وجهه ومسحه، وقبل جبينه، وجعل يبكي ويقول: بأبي أنت وأمي طبت حياً وميتاً، وانقطع لموتك ما لم ينقطع لموت أحدٍ من الأنبياء، فعظمت عن الصفة، وجللت عن البكاء، وخصصت حتى صرت مسلاة، وعممت حتى صرنا فيك سواء، ولولا أن موتك كان اختيارً لجدنا لموتك بالنفوس، ولولا أنك نهيت عن البكاء لأنفدنا عليك الشؤون، فأما ما لا نستطيع نفيه، فكمدٌ وإدنافٌ يتحالفان لا يبرحان، اللهم فأبلغه عنا، اذكرنا يا محمد عند ربك، ولنكن من بالك، فلولا ما خلفت من السكينة لم نقم لما خلفت من الوحشة. اللهم أبلغ نبيك عنا واحفظه فينا.
ثم خرج لما قضى الناس عبراتهم، وقام خطيباً بخطبةٍ جلها الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم، وقال فيها:
أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم أنبيائه، وأشهد أن الكتاب كما أنزل، وأن الدين كما شرع، وأن الحديث كما حدث، وأن القول كما قال، وأن الله هو الحق المبين، -في كلام طويل-.
ثم قال رضي الله عنه: أيها الناس! من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لم يموت، إن الله قد تقدم لكم في أمره