فهؤلاء أربعة من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فَهموا استغراق النَّهي لجميع البقاع من هذا الحديث، ولم يُعرَف لهم مخالف يُناقض صَراحة ما فهموه؛ فيتحصَّلُ مِن ذلك اتفَاقُهم على عدم جواز شدّ الرحال إلى غير المساجد الثلاثة.
وممَّا يَفْصِل في الأَمر، ويرتقي بالنَّاظر إلى مدارج اليقين بصحة ما فُهم من مذهب الصَّحابة - رضي الله عنهم - =ما تراه من عدم ورود ما يُناقض ذلك المُتقَرِّر في القرن الأوَّل عند التابعين، ومَنْ جاء بعدهم من الأئمة الأربعة؛ فيتحرّر عندئذٍ: أَنَّ الأصلَ عندهم المَنْع من ذلك، وعدمُ جوازِهِ.
وقد يُقال: عدم الوقوف على ما يُناقض هذا الأصل من فعل الصحابة أو أَقوالهم، وفعل أو أقوال من جاء بعدهم من التابعين، ليس علمًا بالعدم.
فيُقال: أولًا: قد يصِحُّ هذا الاعتراض عند انتفاء أي قرينة أو دليلٍ على حرمة السَّفر للمشاهدِ والقبور لزيارتها، فحينئذٍ قد يستساغ هذا الإِيراد، كيف وقد وُجدت القرائن المقتضية لصحة المنع من ذلك، ومن أَعظم تلك القرائن:
-أنَّه يستحيل في مَسْألة عباديَّةٍ كهذه أَن يَسودَ قولٌ وينتشرُ في عصر أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع كونه مرجوحًا، ولا ينبري المخالف له في عصر سادات الأُمّةِ في بيان خطإ هذا الفَهم مع ما أُثِرَ عنهم من الحرص على بيان الحقِّ متى ما ظهرت رسومه، وارتفعت لهم أَعلامُهُ.
فإن قيل: لعلّه أُثر لكن لم ينهض التَّابعون في نَقْله وبثِّهِ.
فالجواب عنه كالجواب عن الأوّل: بأنّه يستحيل أن يندثر الحق ولا يتهيّأ من أتباعهم من فضلاء التَّابعين من ينقله ويُشيعه، ثمَّ لو سُلِّم بصحة ذلك لاستدللنا على أنَّ بقاء أحدِ القولين دون الآخر، دليل على