للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

الموافقة والمشارَكة، والمشابَهة، والمُواطَأة؛ نفهم الغائب، ونُثْبِته، وهذا خاصة العقل. ولولا ذلك لمن نعلم إلاّ ما نُحِسُّه، ولم نعلمْ أمورًا عامّةً، ولا أمورًا غائبةً عن أحاسيسنا الظاهرة، والباطنة ... ) (١) .

ومع انْبِساط وانتشار الدّلائل السَّمعيَّة على إثبات العقائد الغيبيَّة، وإمكان الاستدلال العقلي عليها = إلاّ أن هناك طوائفَ من الناس خالفوا مقتضى الضرورة السابقة، وأنكروا وجود حقائق غيبيّة لا تقع في فلك مُدركاتهم.

والأساس الذي انبنى عليه غلطُهم أنَّهم حصروا الوجود وأسبابَه فيما له تحقُّقٌ موضوعي مُدْرَك، وما لم يكن حكموا بنفْيه؛ لتجاوُزه الواقع المادّيّ.

ثم إنّهم تفريعًا على هذا الأَصلِ جعلوا الحقائق الغيبية قَسِيمَةً للمعرفة العقليَّة؛ لزعمهم أن هذه الحقائق لا يمكن البَرْهنة عليها؛ وذلك لكونها ليس لها تحقُّقٌ خارج الذات العارفة، فهي شأن ذاتيّ يمتنع فحصه وإمكان الاستدلال العقلي عليه.

يقول "عادل ضاهر" منظّرًا لهذا الأصل الفاسد: (الكلام على "حقائق" تتخطّى مجال المعرفة العقلية -كما رأينا- هو كلام على "حقائق" من النوع الميتافيزيقي، أو اللاّهوتي. إذن فهو ينطوي على موقف ثنائي من الوجود يفترضُ أنّ الواقع الماديّ المحسوس (عالَم الظواهر) لايستنفد كل ما هو موجود، وما يمكن أن يوجد، وأن هناك واقعًا آخر لا مادّيًّا يتجاوزه. إنّ الفصْل الإبستمولجي بين المعرفة العقلية وغير العقلية، بناءً على الموقف الذي يُشكّل مدار نقاشنا؛ هو في نفس الوقت فصْلٌ أنطولجي مطلق بين واقعين: واحدٌ مادّي، وآخر لا مادّي.


(١) "مجموع الفتاوى" (٥/ ٢٠٨) .

<<  <   >  >>