وبجره وخيره وشره. لأن للعصر أثراً بيناً فيما ينظم الشاعر ويكتب الأديب، وهو عصر ما أخلقه بشاعر كالمتنبي ينشر بين أهله الضعفاء فرقان القوة ورسالة المجد والمثل الأعلى.
وكما ابتعث (جوبيتير) آله الحرب والقوة نيتشه فيلسوفا يوقظ بإنجيله همم الألمان الراقدة وعزائمهم الهامدة ويلقنهم آيات تنازع البقاء وبقاء القوي الغالب، ابتعث المتنبي قبله بثمانية عصور إلى الأمم الإسلامية يقول:
فالموت أعر لي والصبر أجمل بي ... والبرُّ أوسع والدنيا لمن غلبا
تطاول العهد بالجاهلية الأولى، فنسى الشعراء نغمة التفاخر بالعديد، والتكاثر بالوليد، والاعتداد بالقوة، والاعتزاز بالمنعة، والتفاضل بمنع الجار وحفظ العشيرة، فأصبحوا وقد رقت حاشيةالحياة، ولانت أعطاف العيش، تشوقهم اللذة، ويروقهمالترف، ويستعبدهم الهوى، وتتصباهم الطريقة النواسية، فما منهم إلا عاشق مفتون، وقيس بليلاه مجنون، وما فيهم إلا نضو ردف ثقيل، وخصر نحيل، وطرف سقيم، وثغر نظيم؛ ومن لا يحب الخصور والنحور واللواحظ والثغور إذا كن مما يشتهي ويستملح!.
طغى سيل الأدب اللين بنوعيه الشعر والنثر على الحياة الإسلامية العربية في القرن الثالث والرابع حتى ماعت الأخلاق الصلبة البدوية، وذابت الرجولة القاسية الجاهلية، وتفككت الفضائل من رابطتها الوثيقة، وتحللت الأخلاق من أزمتها المتينة، وسرى داء الضعف والتخنث في نفوس الشيوخ والشبان بله الكواعب والغلمان. فكان من ذلك جيل مترف متنعم، مسخت الحضارة رجولته، وألان الترف شكيمته، وأماتت النعمة طموحه. فما تتراقى إلى مجد له همةٌ، ولا تتسامى إلى مثل أعلى له عزمةٌ، وما جنى على هذا الجيل ما جنى إلا شعراؤه الخليعون الماجنون وفي طليعتهم بشار وأبو نواس. فان من يقول:
ولو أن مالي يستقل بلذتي ... لأنسيت أهل اللهو كسرى وقيصرا
لا يبشر إلا بجيل خائر ضعيف كهذا الجيل الذي ولد فيه المتنبي. وما لنا لا نقول في صراحة وصدق، إن الأدب القوي في غير عنف، الشديد في غير عسف، ظل يتيماً بعد الفرزدق وجرير حتى جاء أبو الطيب فرأب الصدع، وسدَّ الثأى وحمل الراية؛ ثم فتح للشعراء طرائق الخلد، وسنَّ لهم سنن المجد؟