وبالمقارنة والموازنة بين المعاصرين يتسنى لنا أن نميز الأديب الكبير من غيره. فدراسة معاصري شكسبير مثل بن جونسون ومارلو وبومنت وفلنشر، توضح لنا عظمته وجلاله. وإذا درسنا بوروبيدس وسوفوكلس ألقى كل منهما نوراً ساطعاً على شخصية الآخر. وكذلك إذا درسنا شارلس دكنز مع وليم ثاكري، وتنسون مع بروننج، والأخطل وجرير والفرزدق، وبشار وأبو نواس، وأبو تمام والبحتري، وهكذا. . .
٥ - بقي أن نشير إلى عنصر هام من أهم العناصر التي تمكن القارئ من الاستفادة التامة مما يقرأ وهو الصبر والتجاوب مع الكاتب. وكم من قارئ يترك الكتاب بعد قراءة صفحة أو اثنتين لأن الكاتب يختلف عنه ميولاً ومشرباً، وليس أخطر على القارئ من اقتصاره على قراءة ما يتفق ونظرته إلى الحياة. ومن ملاحظات الكاتب الألماني أميل لدفيج أن القراء في العصر الحاضر يطالعون الكثير من القصص لا لغاية إلا تبرير آثامهم وزلاتهم بحجة أن أبطال القصة سلكوا نفس المسلك، وهذا جبن وخور. والواقع أن الكتاب الذي يهاجم أفكارنا وعقائدنا يفيدنا أكثر من غيره. والمعركة بين الكتاب والقارئ ليست بأقل متعة أو جدوى من معركة شريفة بين شخصين إذ يجتهد كل في تبرير رأيه بإظهار براهينه وأدلته ويحاول إفحام خصمه بتفنيد مستنداته، وفي ذلك ما فيه من إذكاء الفكر وشحذ الذهن ومعاودة النظر في الآراء والأفكار والمعتقدات وتبديلها أو تعديلها على هدى نتيجة المعركة. فلم لا نسلك المسلك نفسه مع الكتب؟ ولعل هذا يجدي مع الكتب أكثر مما يجدي مع الأشخاص، لأن النفس الإنسانية مزيج من الخير والشر، وقد يعمد الإنسان إلى هزيمة خصمه بأي ثمن - حتى التضحية بالحق - مدفوعاُ بالأثرة وحب النصر والفخر، ولكنه لا يسلك هذا السبيل مع الكتب خصوصاً إذا كان أصحابها قد ماتوا من زمن
يقول الفيلسوف الإنكليزي (باكون):
(لا تقرأ كي تناقض أو تفند، ولا كي تؤمن وتسلم جزافاً، ولا كي تجد موضوعاً للحديث والمناقشة، بل كي تتبصر وتتأمل)