يا أيها الملك الميمون طائره ... هرون راح إليك الناس وابتكروا
ويظل يغنى والرشيد يسمع حتى يتم أبياته في نغم لم يسمع الخليفة مثله، ولحن لم تردد نظيره جنبات القصر، ويطير الرشيد طرباً ويسمع من الأنغام جديداً لم يُسمعه اسحق مثله فيعاتب اسحق كيف ترك الرجل من قبل فلم يعلمه به، ثم يأمره أن يأخذه لديه فيعنى به حتى يفرغ هو له.
أما اسحق فأسرها لتلميذه، ولم يكد يخلو به حتى عنفه واشتد في تعنيفه وصارحه بما هاج به من الحسد له والغيظ منه، وخيره بين اثنتين لا ثالث لهما، فأما أن يغادر تلك البلاد فلا يراه بعد ذلك أبداً ويعطيه على ذلك أغلظ الأيمان وأوثق العهود وله عليه ما يريد من مال أو عطاء، وإما أن يقيم على كره منه وشركة له في الصناعة وعند ذلك لن يأمن غدره ولن يغنيه الحذر شيئا، وأما زرياب فلم يكد يرى أستاذه ينفس عليه رضاء الخليفة، ولم يكد يسمع منه هذا الوعيد المخيف حتى قام من فوره يبغي بلاداً غير هذه وناساً غير هولاء، وأما الرشيد فانه لم يكد يفرغ من بعض شؤونه حتى سأل عن زرياب أستاذه فزعم له اسحق أنه رجل غر أحمق ما هو إلا أن أبطأت عليه جائزة أمير المؤمنين حتى رحل غضبان ينعى على الأيام أن أوقعته فيمن لا يقدرون النبوغ ولا يكرمون النابغين ولا يعرفون الغث من السمين فسكن الرشيد إلى قول اسحق.
سار زرياب إذن من المشرق وكان المغرب قبلته فولى نحوها وجهه، وراح في الأندلس يلتمس ما لم يظفر به في العراق من بعد الصيت ورفعة الشأن، وكتب إلى عبد الرحمن بن الحكم يعلمه بمكانه من الصناعة ويسأله الأذن له في الوصول إليه، وما هو إلا أن يقرأ عبد الرحمن الكتاب حتى يرحب بصاحبه ويوصي عماله على البلاد أن يحسنوا إليه ويوصلوه إلى قرطبة، وفى قرطبة يبدع زرياب ويملك على الأمير نفسه فيطرح كل غناء سواه ويقدمه على جميع المغنين ويقطعه الأرض ويمنحه المال ويبلغ إعجابه به حداً لا مثيل له، فيفتح له باباً خاصاً يستدعيه منه متى أراده، وزرياب يذهب في الغناء كل مذهب ويضرب في التجديد بسهم وافر: هذه أعواد القوم لها أوتار أربعة، فليزد هو عليها وتراً خامساً يستهوى النفس بما يحدثه من النغم، وهاهي أعواد المغنين كبيرة الحجم ثقيلة الوزن فليكن عوده خفيفاً مرهفاً دقيق الصنع، وهذا مضراب العود قد استعمله الناس من خشب فهو ثقيل