للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

الوجه الذي أحبَّها منه الشيطان، ونهى عنها من حيث أمر بها الشيطان، وأحبَّ العقوبة بها على الوجه الذي يكرهه الشيطان من الانتقام للمؤمنين، والنصر للمظلومين، والاعتبار للمتقين، والتمحيص للصالحين، والرضا لربِّ العالمين. فأين الاتفاق؟ وهل بعد هذا تضادٌّ أكبرُ منه.

وأما أنبياء الله تعالى وأولياؤه وأحبَّاؤُه، فلا يخفى على من له أدنى مُسْكةٍ من عقل رضاهم بما رضي الله، وتسليمهم لأمر الله، والرضا بالقضاء في غير المعاصي من كل وجه، وفيها من الوجه الذي قُدِّرَتْ لأجله، لا من الوجه الذي قبحت لأجله.

مثال ذلك: اليمين الواجبة شرعاً مع فجور الحالف فيها، فإنها إحدى الكبائر إجماعاً، وقد حَسُنَت، بل وجبت ورضيت شرعاً، لكن وجه القُبح فيها مكروهٌ حرام منفصل من وجه الحسن المرضي.

وكذلك سائر القبائح المقدرة، وعلى قدر تفاوتهم في الرضا بالقضاء تفاوت مراتِبُهُم في القرب منه، ولذلك اتخذ الله إبراهيم خليلاً حين عزم على ذبح ولده وقُرَّة عينه إيثاراً لرضا ربه، وألقي في النار راضياً بحيث إن جبريل قال له وهو في الهواء يَخْوِي إليها: ألك حاجةٌ؟ قال: أما إليك فلا (١).

أفمثل هؤلاء يقال لهم: إنهم يخالفون الله في مراده، ولا يدخل في ذلك ما خرج عن القدرة مما يُبتلى به الصالحون من محبة العافية لعظم ألمٍ مع منعهم لأنفسهم مما يقدرون عليه من ذلك وإن عظُمَت المشقة كالصبر في الحرب،


(١) أخرجه ابن جرير الطبري في " تفسيره " ١٧/ ٤٥ من طريق معتمر بن سليمان التيمي، عن بعض أصحابه من قوله.
والثابت في هذا ما أخرجه البخاري (٤٥٦٣) و (٤٥٦٤) عن ابن عباس: (حسبنا الله ونعم الوكيل) قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار، وقالها محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ}.

<<  <  ج: ص:  >  >>