للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

قال الوائلي:

فداك أبو عمرو على أن ودّه ... لو أنّ الورى طُرّاً فدا أبي عمرو

وقال المتنبي:

وهاجى نَفْسَهُ من لم يُميّزْ ... كلامي من كلامهم الهُرَاءِ

وقد نسب إلى ابن أبي زرعة بيت أنكره عليه ابن عبد كاف فقال:

ونحلت بيتاً قاله غي ... ري مقراً غير جاحدِ

هلاّ عرفت مكان بيتٍ ... زيد في الأبياتِ واحد

فمذاهب الشعر لا تخفى عن الفطن وابن أبي زرعة أحسن أدباً من أبي الطيب لأنه سأل أن يعرف مكان بيت زيد في الأبيات وقول أبي الطيب:

وهاجى نَفْسهُ من لم يُميز ... كلامي من كلامهم الهُراء

استخفاف بالمخاطب.

ويليها قصيدة أولها:

ملامُ النَّوى في ظلمها غاية الظّلمِ ... لعلَّ بها مثل الذي بي من السّقمِ

ولو لم تغر لم تزوعني لقاءكم ... ولو لم تردكم لم تكن فيكم خصمِي

هذا من قول المسلمي الحصيني:

غار الزمان عليها فاستبدّها ... كأنّما هو مشغوفٌ بها كلفُ

هذا الشعر يساوي مبناه ومعناه وقد استولى على معنى البيتين في بيته وهو السابق فهو أولى بما قال، وقد قال محمد بن أبي الحرث في مثله:

ونافسني فيه صرفُ الزمانِ ... كأنَّ الزمانَ له عاشِقُ

وقد قصد هذا المعنى وملح عبد الصمد بن المعذل فقال:

مالي على صومك في رشفةٍ ... فاك وإن أضماك كمن لؤمِ

فاز على عاشقه صومه ... إني أرى الصومِ من القومِ

وقال المتنبي:

أمنعمةٌ بالعودة الظَّبية التي ... بغير وليّ كان نائلها الوسمي

الأرض إذا أمطرت بالولي وهو بعد الوسمي قال ذو الرمة لبلاب بن أبي بردة:

لنى وليةً تمرع جناني فإِنَّني ... لما نلتُ من وسمّي نُعماك شاكِرُ

فأراد أبو الطيب أنها وصلته ولم تعاود وقال ابن الرومي:

يعيد ما أبدت يداه من العزف ... جواداً لا يعرفُ الساما

يتبعُ وسميّه الولي وقد ... أغنى حديث البلاد أن وسما

فذكر ابن الرومي أن الممدوح يجود ويعاود ولو اكتفى بأول جود كان كافياً وهذا معكوس في قول أبي الطيب لأنها عنده تجود ولا تعاود وهذا يجود ويعاود فهو ضد تلك وعرف أن جودة الأول كافٍ من المعاودة وطلب أبو الطيب منها المعاودة ولم يشرط أن الأول من الوصل كان كافياً فكلام ابن الرومي أرجح وهو أحق بما قال.

وقال المتنبي:

ترشفت فاها سحرة فكأنّني ... ترشّفت حرّ الوجد من بارد الظّلم

فالمستعمل في الأكثر أن يكون برد فم المعشوق يطفئ حر وجد العاشق فأما أن يزيد في حر الوجد فما يعمل الهجر والمتع أكثر من هذا والذي يحسن أن يستعمل في هذا قول أشجع:

وسقاك من حر الهوى ... بردُ المفلجةِ العَذاب

وهذا من المعكوس الذي لفظه أعذب من لفظ أبي الطيب وأرجح في المعنى وأشجع به أولى.

وقال المتنبي:

ما دار في خلد الأيام لي فرحٌ ... أبا عُبادة حتى دُرت في خُلْدِي

هذا من قول أبي تمام:

رأيتُ الليالي قد تنكّرَ عهدُها ... فلما تراءى لي رَجَعْنَ إلى العَهْدِ

أصله من قول ابن هرمة:

ولي خليل ما مسني عدم ... مُذ وقعت عينه على عَدمي

وربما ظن ضعيف النقد إذا تجردت الألفاظ المسروقة من ألفاظ السارق لها أنها غير مسروقة منها وليس كما ظن هذا توليد كلام من كلام لفظهما مفترق ومعناهما متفق والأبيات متساوية في حسن المبنى والمعنى فالسابق أولى بها ومن ذلك قول البحتري:

أقسمتُ لا تلقين جدّاً صاعداً ... في مطلبٍ حتى ينحن بصاعد

فالمعنى محتذى عليه وإن فارق ما قصد به إليه وفي بيت البحتري مطابقة يرجح بها.

وقال المتنبي:

ملكٌ إذا امتلأتْ مالاً خزائنُهُ ... أذاقها طعم ثكلِ الأم للولَد

هذا من قول أبي نواس:

إلى فتى أمّْ ماله أبداً ... تَسْعى بجيبٍ في الناس مشقوقُ

إلا أن بيت أبي نواس أمدح من بيته بقوله:) أبداً (لأن ذلك يدل على تفريقه المال في كل حين بغير زمان محدود وأبو الطيب قال:) إذا امتلأت مالاً خزائنه (فجدد وخبر أنّها لا تفرق إلا عند امتلائها، فقد صار لتفريقه زمان دون زمان ولعله لا يسخى بالتفرقة إلا إذا كثر ماله، فإذا ضاق منع منه ولكن كلام أبي الطيب أجزل فصار لنقله الرذل إلى الجزل أحق بما أخذ.

وقال المتنبي:

ماضي الجنان يُريه الحزمُ قبل غدٍ ... بقلبه ما ترى عيناهُ بعد غَدِ

الوجه أن يقول: يريد الحزم في يومه ما ترى عيناه غداً، كما قال هو:

ذكي تظنّيه طليعةُ عينِهِ ... يرى قلبه في يومه ما ترى غدا

وهذا الخبر يوهم أنه لا يعرف ما يكون غداً بل يعرف ما يكون بعده فقد استقصى فطنته وهو يشبه ما أنشده ابن قتيبة:

بصير بأعقاب الأمورِ برأيه ... كأن له في اليوم عيناً على غدِ

ومثله: الألمعيّ الذي يظنُّ لك الظنَّ كأن قد رأى وقد سمعا وهذه أبيات متساوية فالسابق أولى بشعره.

وقال المتنبي:

أيُّ الأكف تُباري الغيثَ ما أتّفقا ... حتى إِذا افترقا عادت ولم يَعُدِ

ينظر هذا إلى قول أبي دلف:

الله أجرى من الأرزاق أكثرها ... على يديكِ بعلم يا أبا دُلَفِ

ما خطَّ لا كاتباه في صحيفته ... كما تُخطط لا في سائرِ الصُّحفِ

بارى الرياحَ فأعطى وهي جاريةٌ ... حتى إذا وقفت أعطى ولم يقفِ

فهذا البيت الأخير كلام واضح ومعنى لائح وهو على التأمل أصبح مسبوكاً وذلك أنه قال:) حتى إذا وقفت (ولا بد للريح من الوقوف وذكر أن الممدوح يجري معها فإذا وقفت جرى وأبو الطيب حصر على الغيث العادة بعد افتراقها ولا فرق بين الغيث والريح فيه فضل من التشبيه والريح في كل زمان فالمعطي في كل زمان أسمح من المعطي في زمن مخصوص فلفظ العكوك أرجح فهو أولى بقوله.

وقال المتنبي:

قومٌ إذا أمطرت موتاً سيوفُهُمُ ... حسبتها سُحباً جادت على بلدِ

وهو من قول ابن الرومي:

بنو مصعب فينا سماء رفيعة ... لها دُرَرٌ ليست بذا الدهر يعدمُ

سماء أظلّت كلّ شيءٍ وأعملت ... سحائب شتى صوبها المال والدمُ

لم يذكر أبو الطيب غير أن سيوفهم تقطر دماً وبيت ابن الرومي جعلها سحباً تمطر بالمرجو والمخوف فجمع بين السماحة والبأس وأطلق القول بلا حسبان وأبو الطيب يحسب أنها سحب فلفظ ابن الرومي أمدح وأرجح فهو أولى بما قال.

وبد ذلك قصيدة أولها:

جَلَلاً كما بي فَلْيَكُ التَّبريح ... أغذاءُ ذا الرَّشأِ الأغنّ الشِّيحُ

هذا بيت فيه عيوب منها حذف النون من) يكن (لأنها قوية بالحركة اللازمة

<<  <   >  >>