وأنت إذا تأملت هذه الآيات حق التأمل، رايتها هي نفس الرضا بالله ربا وبالإسلام دينا، وبمحمد صلي الله عليه وسلم رسولا، ورأيت الحديث يترجم عنها، ومشتقا منها، فكثير من الناس يرضي بالله ربا ولا يبغي ربا سواه، لكنه لا يرضي به وحده وليا وناصرا، بل يوالي من دونه أولياء ظنا منه انهم يقربونه إلى الله، وان موالاتهم كموالاة خواص الملك، وهذا عين الشرك، بل التوحيد، إلا يتخذ من دونه أولياء، والقران مملوء من وصف المشركين بأنهم اتخذوا من دونه أولياء.
وهذا غير موالاة أنبيائه ورسله وعباده المؤمنين فيه، فان هذا من تمام الإيمان ومن تمام موالاته، فموالاة أوليائه واتخاذ الولي من دونه لون، ومن لم يفهم الفرقان بينهما فليطلب التوحيد من أساسه، فان هذه المسالة اصل التوحيد وأساسه.
وكثير من الناس يبتغي غيره حكما يتحاكم إليه، ويخاصم إليه، ويرضي بحكمه، وهذه المقامات الثلاث هي أركان التوحيد: إلا يتخذ سواه ربا، ولا إلها، ولا غيره حكما.
وتفسير الرضا بالله ربا: إن يسخط عبادة ما دونه، هذا هو الرضا بالله إلها، وهو تمام الرضا بالله ربا، فمن اعطى الرضى به ربا حقه سخط عبادة ما دونه قطعا، لأن الرضاء بتجريد ربوبيته يستلزم تجريد عبادته، كما إن العلم بتوحيد الربوبية يستلزم العلم بتوحيد الإلهية
فالحاصل: إن يكون الله وحده المحبوب المعظم المطاع، فمن لم يحبه ولم يطعه ولم يعظمه: فهو متكبر عليه، ومتي احب معه سواه، وعظم معه سواه، وأطاع معه سواه: فهو مشرك، ومتي افرده وحده بالحب والتعظيم والطاعة فهو عبد موحد، والله سبحانه وتعالى اعلم" (١).
ومنافي الرضا ومقابله هو الاعتراض والكراهية لما انزل الله - بعضه أو كله، وإذا فسرناه بالقول والانقياد، فضدهما الرد والاعتراض والإباء.
وكل هذا مما وقعت فيه الأمة كليا أو جزئيا، فوقع فيها الاعتراض علي توحيد المعرفة والإثبات، والاعتراض علي الأمر الشرعي بالتحليل والتحريم، والاعتراض علي الأمر الكوني، فاعترض كثير منهم علي صفاته، وشريعته، وقضائه وقدره.
واصل هذه الاعتراضات التلقي عن غير الله ورسوله، والاستمداد من غير الوحي وتحكيم غيره، فمنهم من حكم العقل - بزعمه - فنقل فلسفات الوثنيين وحثالة فكر التائهين، وهؤلاء هم أصحاب الكلام.
ومنهم من حكم الذوق والوجد والكشف، وانتكس بالعقل المسلم إلى حضيض الخرافة والوهم، وهؤلاء هم الصوفية.
ومنهم من حكم الأقيسة العقلية، والأعراف السياسية، بحجة تحقيق المصلحة الشرعية، ومراعاة الأصول العقلية - بزعمهم - فاحلوا من الدماء والأموال والفروج وما ورد النص الصريح بتحريمه، وكان ذلك مع وقوعه في دائرة الاجتهاد الخطأ أو التطبيق المتعسف ممهدا لما وقعت فيه الأمة في العصر الحديث من الشرك الأكبر والاعتراض الأطم بتحكيم القوانين الوضعية وإحلالها محل الشريعة، بل الكراهية الصريحة لكثير مما أنزل الله، وبخاصة في الجهاد والحجاب والموالاة والسياسة، ولندع الإمام ابن القيم يفصل لنا الاعتراض التي وصلت إليها الأمة في عصره، وحسبك إن تقول بعدها: " كيف لو رأي زماننا هذا؟! ".
يقول رحمه الله: " الاعتراض: ثلاثة أنواع سارية في الناس، والمعصوم من عصمه الله منها.
النوع الأول: الاعتراض علي أسمائه وصفاته بالشبه الباطلة:
(١) [٤٣٨٩] ((المدارج)) (٢/ ١٨١ / ١٨٣)