للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

وهو سار في النفوس سريان الحمى في بدن المحموم، ولو تأمل العبد كلامه وأمنيته وإرادته وأحواله، لرأي ذلك في قلبه عيانا، فكل نفس معترضة على قدر الله وقسمه وأفعاله إلا نفسا قد اطمأنت إليه، وعرفته حق المعرفة التي يمكن وصول البشر إليها فتلك حظها التسليم والانقياد. والرضا كل الرضا " (١)

٢ - المحبة:

المحبة أساس كل عمل من أعمال الدين والإيمان، كما إن التصديق أساس كل قول من الأقوال (٢)، وذلك إن كل عمل يعمله الإنسان لابد إن يكون عن إرادة قلبية - كما أوضحنا سلفا - وهذه الإرادة أما إن تكون حبا أو كرها، فدافع العمل لا يخرج عن إن يكون رغبة وطواعية أو رهبة وإجبارا.

وأعمال الدين قسمان:

أولا: التعبدي المحض كالصلاة والصيام والحج.

والآخر: ما كان تابعا للنية، كالآكل والنوم بنية الاستعانة علي الطاعة، والإنفاق علي الأهل بنية القربة، ونحوه.

فالأول لا يصلح إلا بالنية، والآخر لا يكون مأجورا عليه ومتقربا به إلا بها فاتضح إن النية أساس في الأعمال كلها.

وهذه النية هي بمعنى الإرادة والغاية، وهي التي لا تخلو من إن تكون حبا أو كرها، أما النية الخاصة التي يذكرها الفقهاء في الأحكام فشيء آخر.

وقد اخبر الله سبحانه وتعالى عن اختلاف حالي المؤمن والمنافق وعاقبتيهما بحسب اختلاف نية كل منهما - مع اتفاق عملهما في الصورة والمظهر، كالإنفاق مثلا، فقال تعالى الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى إِلاَّ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الأَعْلَى وَلَسَوْفَ يَرْضَى [الليل: ١٧ - ٢١].

وقال: وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ [التوبة:٥٤] فالمؤمن يعمل الطاعة محبا لها راضيا بها - فكان جزاؤه القبول والرضا، والمنافق يعملها كارها كسلان - فكان جزاؤه الرد والإحباط.

والمؤمنون أنفسهم تتفاوت درجات إيمانهم بحسب المحبة والرضا، فكم بين إسلام أبى ذر الذي تحمل المشاق حتى بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما اسلم أعلن إسلامه بين ظهراني الكفار مستعذبا ضربهم وأذاهم يوما بعد يوم (٣)، وبين إسلام الأعرابي الذي جاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال له ((اسلم "، فقال: أجدني كارها، فقال: " اسلم وان كنت كارها)) (٤).

بل كم بين إسلام سلمان - الذي قضي السنين الطوال بحثا عن الدين الحق وانتقل من خدمة راهب إلى آخر حتى وقع في الرق، وبلغه خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على النخلة، فكاد يسقط فرحا وشوقا (٥) - وبين إسلام المؤلفة قلوبهم من جفاه الأعراب الذين دخلوا في الإسلام بذل ذليل.

ومن هنا كانت المحبة أصل أعمال القلوب، وشرطاً من شروط لا اله إلا الله، " فان الإسلام هو الاستسلام بالذل والحب والطاعة لله، فمن لا محبة له لا إسلام له البتة، بل هي حقيقة شهادة إن لا اله إلا الله، فان " الإله " هو الذي يألهه العباد حبا وذلا وخوفا ورجاء وتعظيما وطاعة له، بمعنى "مألوه" وهو الذي تألهه القلوب، أي تحبه وتذل له.


(١) [٤٣٩٢] ((المدارج)) (٣/ ٦٩ – ٧١)
(٢) [٤٣٩٣] انظر كلام شيخ الإسلام الآتي في نهاية هذا الموضوع.
(٣) [٤٣٩٤] تقدمت قصة إسلامه.
(٤) [٤٣٩٥] ((المسند)) (٣/ ١٩، ١٨١)، ومعني قوله: اجدني كارها: إن نفسه فيها كره للدين ولم ينشرح صدره للإسلام بعد، فأرشده النبي صلي الله عليه وسلم إلى إرغام النفس وقبول الحق.
(٥) [٤٣٩٦] انظر قصة إسلام سلمان في ((الفتح)).

<<  <  ج: ص:  >  >>