للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

فليس الغرض أنهم لم يهتدوا لمثل هذا، في مثل هذا الأصل، الذي لم يعرفوا فيه لا الإيمان ولا القرآن، وهما نور الله الذي بعث به رسوله، كما قال: وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ [الشورى: ٥٢ - ٥٣].وإنما الغرض أن التصديق قد صرح هؤلاء بأنه هو العلم (١)، أو هو الاعتقاد إذا لم يكن علما، وأنهم مضطرون إلى أن يقولوا ذلك، وهو أبلغ من قول بعضهم: مستلزم للعلم، في تمام ما ذكره عن أبي القاسم الاسفراييني" (٢).

رابعاً: قال الأنصاري: "ومنهم - يعني الأشاعرة - من اكتفى بترك العناد، فلم يجعل الإقرار أحد ركني الإيمان، فيقول: الإيمان هو التصديق بالقلب، وأوجب ترك العناد بالشرع.

وعلى هذا الأصل يجوز أن يعرف الكافر الله، وإنما يكفر بالعناد، لا لأنه ترك ما هو الأهم في الإيمان.

وعلى هذا الأصل يقال: إن اليهود كانوا عالمين بالله ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم، إلا أنهم كفروا عنادا وبغيا وحسدا.

قال: وعلى قول شيخنا أبي الحسن: كل من حكمنا بكفره، فنقول: إنه لا يعرف الله أصلا، ولا عرف رسوله، ولا دينه. قال أبو القاسم الأنصاري: كأن المعنى: لا حكم لإيمانه، ولا لمعرفته شرعا" (٣).

قال شيخ الإسلام معلقا:

"وليس الأمر على هذا القول كما قاله الأنصاري هذا، ولكن على قولهم المعاند كافر شرعا، فيجعل الكفر تارة بانتفاء الإيمان الذي في القلب، وتارة بالعناد، ويجعل هذا كافرا في الشرع، وإن كان معه حقيقة الإيمان الذي هو التصديق.

ويلزمه أن يكون كافرا في الشرع في أن معه الإيمان الذي هو مثل إيمان الأنبياء والملائكة. والحذاق في المذهب، كأبي الحسن، والقاضي (٤)، ومن قبلهم من أتباع جهم عرفوا أن هذا تناقض يفسد الأصل، فقالوا: لا يكون واحد كافرا إلا إذا ذهب ما في قلبه من التصديق.

والتزموا أن كل من حكم الشرع بكفره، فإنه ليس في قلبه شيء من معرفة الله، ولا معرفة رسوله، ولهذا أنكر هذا عليهم جماهير العقلاء، وقالوا هذا مكابرة وسفسطة.

وقد احتجوا على قولهم بقوله تعالى: لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ [المجادلة: ٢٢] إلى قوله: أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ [المجادلة: ٢٢].

قالوا: ومفهوم هذا أن من لم يعمل بمقتضاه لم يكتب في قلوبهم الإيمان.

قالوا: فإن قيل: معناه، لا يؤمنون إيمانا مجزئا معتدا به، أو يكون المعنى: لا يؤدون حقوق الإيمان، ولا يعملون بمقتضاه، قلنا: هذا عام لا يخصص إلا بدليل.

فيقال لهم: هذه الآية فيها نفي الإيمان عمن يواد المحادين لله ورسوله، وفيها أن من لا يود المحادين لله ورسوله، فإن الله كتب في قلوبهم الإيمان، وأيدهم بروح منه، وهذا يدل على مذهب السلف أنه لابد في الإيمان من محبة القلب لله ورسوله، ومن بغض من يحاد الله ورسوله، ثم لم تدل الآية على أن العلم الذي في قلوبهم بأن محمدا رسول الله يرتفع لا يبقى منه شيء.


(١) يقول الباقلاني: "الإيمان هو التصديق بالله تعالى، وهو العلم". ((التمهيد))، (ص٣٨٩)؛ ونقله شيخ الإسلام في: ((الإيمان)) (ص١١٥) ((الفتاوى)) (٧/ ١٢١).
(٢) ((التسعينية)) (٢/ ٦٥٢ - ٦٥٣).
(٣) ((الإيمان)) (ص١٤٠) ((الفتاوى)) (٧/ ١٤٦).
(٤) وكذا ابن فورك: انظر: ((الإيمان)) (ص٤٢٠) ((الفتاوى)) (٧/ ٤٤٠).

<<  <  ج: ص:  >  >>