للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

والإيمان الذي كتب في القلب ليس هو مجرد العلم والتصديق، بل هو تصدق القلب وعمل القلب، ولهذا قال وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [المجادلة: ٢٢]، فقد وعدهم بالجنة، وقد اتفق الجميع على أن الوعد بالجنة لا يكون إلا مع الإتيان بالمأمور به وترك المحظور، فعلم أن هؤلاء الذين كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه قد أدوا الواجبات التي بها يستحقون ما وعد الله به الأبرار المتقين، ودل على أن الفساق لم يدخلوا في هذا الوعد. ودلت هذه الآية على أنه لا يوجد مؤمن يواد الكفار، ومعلوم أن خلقا كثيرا من الناس يعرف من نفسه أن التصديق في قلبه، لم يكذب الرسول، وهو مع هذا يواد بعض الكفار، فالسلف يقولون ترك الواجبات الظاهرة دليل على انتفاء الإيمان الواجب من القلب، لكن قد يكون ذلك بزوال عمل القلب الذي هو حب الله ورسوله وخشية الله ونحو ذلك، لا يلزم أن لا يكون في القلب من التصديق شيء، وعند هؤلاء كل من نفى الشرع إيمانه دل على أنه ليس في قلبه شيء من التصديق أصلا، وهذا سفسطه عند جماهير العقلاء" (١).

خامسا: قال الأنصاري: "حكى الإمام أبو بكر ابن فورك عن أبي الحسن أنه قال:

الإيمان هو: اعتقاد صدق المخبر فيما يخبر به، ثم من الاعتقاد ما هو علم، ومنه ما هو ليس بعلم.

والإيمان بالله، وهو اعتقاد صدقه، إنما يصح إذا كان عالما بصدقه في إخباره".

ثم شرح الأشعري كيف يكون عالما بصدقه في إخباره، ثم قال:

"ثم السمع قد ورد بضم شرائط أخر إليه - يعني الإيمان -، وهو أن لا يقترن به ما يدل على كفر من يأتيه فعلا، وتركا.

وهو أن الشرع أمره بترك العبادة والسجود للصنم، فلو أتى به دل على كفره، وكذلك لو قتل نبيا أو استخف به دل على كفره، وكذلك لو ترك تعظيم المصحف، أو الكعبة دل على كفره، وكذلك لو خالف إجماع الخاص والعام في شيء أجمعوا عليه دل خلافه إياهم على كفره. فأي واحد مما استدللنا به على كفره مما منع الشرع أن يقرنه بالإيمان، إذا وجب ضمه إلى الإيمان لو وجد، دلنا على أن التصديق الذي هو الإيمان مفقود من قلبه (٢).وكذلك كل ما كفرنا به المخالف من طريق التأويل، فإنما كفرناه به؛ لدلالته على فقد ما هو إيمان من قلبه؛ لاستحالة أن يقضي السمع بكفر من معه الإيمان والتصديق بقلبه" (٣).

قال شيخ الإسلام: "فيقال: لا ريب أن الشارع لا يقضي بكفر من معه الإيمان بقلبه، لكن دعواكم أن الإيمان هو التصديق وإن تجرد عن جميع أعمال القلب غلط.

ولهذا قالوا: أعمال التصديق والمعرفة من قلبه، ألا ترى أن الشريعة حكمت بكفره، والشريعة لا تحكم بكفر المؤمن المصدق.

لها نقول: إن كفر إبليس لعنه الله كان أشد من كفر كل كافر، وإنه لم يعرف الله بصفاته قطعا، ولا آمن به إيمانا حقيقيا باطنا، وإن وجد منه القول والعبادة.


(١) ((الإيمان)) (ص١٤٠ - ١٤٢) ((الفتاوى)) (٧/ ١٤٦ - ١٤٨)؛ وانظر منه، (ص٤٢٠) ((الفتاوى)) (٤٤٠).
(٢) انظر: ((المواقف في علم الكلام))، (ص٣٨٨)؛ و ((شرح المواقف))، للجرجاني، تصحيح محمود الدمياطي، الطبعة الأولى ١٤١٩هـ، دار الكتب العلمية ببيروت (٥/ ٣٦١ - ٣٦٢)؛ و ((شرح المقاصد)) (٥/ ١٩٩، ٢٢٥).
(٣) ((التسعينية)) (٢/ ٦٥٣ - ٦٥٤)؛ و ((الإيمان)) (ص١٤٣) ((الفتاوى)) (٧/ ١٤٩)؛ وهو في ((شرح الإرشاد)) (٢٧٩/أ)، ولم أجده في المطبوع من مجرد مقالات الأشعري، لابن فورك.

<<  <  ج: ص:  >  >>