وقد ناقشناهم في الوجه السابق وأوضحنا أن وصف الله تعالى بما وصف به نفسه أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم من غير تكييف ولا تمثيل ليس من التشبيه في شيء ونتحدث في هذا الوجه عن عدم معرفتهم حقيقة "التنزيه" وأن ما يسمونه من "التنزيه" يتضمن تعطيل صفات الله تعالى، وأن تنزيههم باطل يجب تنزيه الله تعالى من تنزيههم، فنقول وبالله التوفيق.
"التنزيه" المطلوب الذي دل عليه الكتاب والسنة، والذي فهمه السلف أئمة هذه الأمة بما فيهم الإمام أبو حنيفة رحمهم الله تعالى - هو تنزيه الله تعالى من كل عيب ونقص مع إثبات ما ورد به الشرع من الأسماء الحسنى، المطلوب تحقيقه البتة.
بل تسميةُ نفي الصفات "تنزيهاً" من قبيل تسمية الشيء بغير اسمه، كما أن إثبات الصفات الكمالية له تعالى ليس من باب "التشبيه" المطلوب نفيه.
الوجه الخامس:
لقد ذكرنا في الوجه السابق - لإبطال شبهة التشبيه - نصوص كبار أئمة الماتريدية، وغيرهم على أن اشتراك المسميات والموصوفين في الأسماء العامة والصفات المطلقة لا يستلزم التماثل بينهما، ونذكر الآن أنه لابد من وجود القدر المشترك بين الأشياء للإفهام والتفهيم، وإلا لا نسد باب الإفادة والاستفادة المقصودة في تفاهم الكلام وتعقل معانيه ومراد المتكلم منه، وهذا هو الطريق الوحيد للمعرفة والتفاهم. قال الإمام ابن أبي العز الحنفي: "واعلم أن المخاطب لا يفهم المعاني المعبر عنها باللفظ إلا أن يعرف عينها، أو ما يناسب عينها، ويكون بينهما قدر مشترك ومشابهة في أصل المعنى، وإلا فلا يمكن تفهيم المخاطبين بدون هذا قط" (١).
وقال: "فالرسول صلوات الله وسلامه عليه لما بين لنا أموراً لم تكن معروفة قبل ذلك، وليس في لغتهم لفظ يدل عليها بعينها - أتي بألفاظ تناسب معانيها تلك المعاني، وجعلها أسماءً لها، فيكون بينهما قدر مشترك، كالصلاة، والزكاة، والصوم، والإيمان، والكفر.
وكذلك لما أخبرنا بأمور تتعلق بالإيمان بالله وباليوم الآخر، وهم لم يكونوا يعرفونها قبل ذلك حتى يكون لهم ألفاظ تدل عليها بعينها - أخذ من اللغة الألفاظ المناسبة لتلك بما تدل عليه من القدر المشترك بين تلك المعاني الغيبية والمعاني الشهودية التي كانوا يعرفونها، وقرن بذلك من الإشارة ونحوها ما يعلم به حقيقة المراد".
وقال: "وأما ما يخبر به الرسول من الأمور الغائبة، فقد كانوا مما أدركوا نظيره بحسهم وعقلهم كإخبارهم بأن الريح قد أهلكت عاداً، فإن عاداً من جنسهم والريح من جنس ريحهم وإن كانت أشد ... ، وقد يكون الذي يخبر به الرسول - صلى الله عليه وسلم- مما لم يدركوا مثله الموافق له في الحقيقة من كل وجه لكن في مفرداته ما يشبه مفرداتهم من بعض الوجوه.
كما إذا أخبرهم عن الأمور الغيبية المتعلقة بالله واليوم الآخر، فلابد أن يعلموا معنى مشتركاً وشبهاً بين مفردات تلك الألفاظ وبين مفردات ما علموه في الدنيا بحسهم وعقلهم ... به يعلم المستمعون أن معرفتهم بالحقائق المشهودة هي الطريق التي يعرفون بها الأمور الغائبة؛
فينبغي أن يعرف هذه الدرجات:
وثانيها: عقله لمعانيها الكلية.
وثالثها: تعريف الألفاظ الدالة على تلك المعاني الحسية والعقلية.
فهذه المراتب الثلاث لابد منها في كل خطاب فإذا أخبرنا عن الأمور الغائبة فلابد لنا من تعريفنا المعاني المشتركة بينها، وبين الحقائق المشهودة، والاشتباه الذي بينهما وذلك بتعريفنا الأمور المشهودة.
ثم إن كانت مثلها لم يحتج إلى ذكر الفارق كما تقدم في قصص الأمم.
(١) ((شرح الطحاوية)) (ص ١٠٤).