مِن ذلك أن يثبت قرآن بالآحاد وأنَّ ذلك القرآن نُسخ حتى لو أنكره شخص كَفَر، ومَن أنكر مِثل هذا لا يَكفر. وإذا لم يثبت قرآنيته لم يثبت نَسْخ قرآن. بل ويجري هذا الاعتراض في مثال ما نُسخ حُكمه وبقي تلاوته ونَسخهما معًا؛ وذلك لأنَّ نَسخ المتواتر بالآحاد لا يجوز كلما سيآتي.
وأجاب الهندي عن أصل السؤال بأنَّ التواتر إنما هو شرط في القرآن المثبَت بين الدفتين، أما المنسوخ فلا. سَلَّمْنَا، لكن الشيء قد يثبت ضِمنًا بما لا يَثبت به أصله، كالنسب بشهادة القوابل على الولادة، وقبول الواحد في أن أحد المتواترين بعد الآخر، ونحو ذلك.
قلت: وجواب آخَر، وهو أنَّ الصدر الأول يجوز أنْ يقع فيه التواتر ثم ينقطع فيصير آحادًا. فما رُوي لنا بالآحاد إنما هو حكاية عن ما كان موجودًا بشروطه. فتأَمَّله.
الرابع:
وقع إشكال في قول عمر - رضي الله عنه -: "لولا أن يقول الناس زاد عمر في كتاب الله لكتبتها"، فإنه إنْ كان جائز الكتابة كما هو ظاهر اللفظ، فهو قرآن متلو، ولكن لو كان مَتلُوًّا لوجب على عمر المبادرة لكتابتها؛ لأنَّ مَقال الناس لا يَصلح مانعًا مِن فِعل الواجب.
قال السبكي:(ولعلَّ الله أن يُيَسِّر علينا حَل هذا الإشكال، فإنَّ عمر - رضي الله عنه - إنما نطق بالصواب، ولكنَّا نتهم فَهْمَنا)(١).
قلت: يمكن تأويله بأنَّ مراده: "لَكتبتُها مُنبِّها على أنها نُسخت تلاوتها"، لِيَكون في كتابتها في محلها أمنٌ مِن نسيانها بالكُلية، لكن قد يكتب مِن غير تنبيه فيقول الناس: زاد عمر، فتركت كتابتها بالكُلية، وذلك مِن دَفْع أَعظم المفسدتين بأخفهما. والله أعلم.