للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>
رقم الحديث:

تَألِيفِ كُتبٍ في فَضَائِلِ القُدسِ لِجَمعِ الأَموَالِ، وَكَأَنَّمَا كَانَ النَّاسُ في تِلكَ الفَترَةِ، أَو فِيمَا قَبلَهَا، لَم يَسمَعُوا أَبَدًا عن مَكَانَةِ القُدسِ في الإِسلَامِ، مُنذُ أَن اتُّخِذَت قِبلَةً لِلمُسلِمِينَ وَمُنذُ أَن أُسرِيَ إِلَيهَا بِنَبِيِّ الإِسَلامِ، وَمُنذُ أَن كَانَت المَدِينَةَ الوَحِيدَةَ التِي فُتِحَت عَلَى يِدِ خَلِيفَةِ المُسلِمِينَ الثَّانِي شَخصِيًّا!

وَلَكِنَّ الرَّبطَ التَّعَسُّفِيَّ بَينَ الوَقَائعِ وَالأَحدَاثِ، بَل وَالاستِخلَاصَاتِ المَعكُوسَةِ مِن أَحدَاثٍ مُعَيَّنَةٍ، لَم تَقتَصِر عَلَى مَا سَبَقَ، فَقَد شَاءَ بَعضُ مَن حَاوَلُوا الانتِقَاصَ مِن مَنزِلَةِ القُدسِ عِندَ المُسلِمينَ لِتَبرِيرِ تَأَخُّرِ الكِتَابَةِ في فَضَائِلِهَا أَن يَتَّخِذُوا مِن وَصِيَّةِ أَبِي عُبَيدَةَ قَبلَ مَوتِهِ دَلِيلًا عَلَى مَا ذَهَبُوا إِلَيهِ، في حَينِ أَنَّهُ في الوَاقِعِ دَلِيلٌ وَاضِحٌ عَلَى عَكسِ مَا ذَهَبُوا إِلَيهِ! وَأَمَّا قِصَّةُ هَذِهِ الوَصِيَّةِ فَتَتَلَخَّصُ فِيمَا يَلِي ـ كَمَا أَورَدَهَا أَبُو المَعَالِي المَقدِسِيُّ في مَخطُوطَتِهِ ـ:

«انطَلَقَ أَبُو عُبَيدَةَ بنُ الجَرَّاحِ يُرِيدُ الصَّلَاةَ في بَيتِ المَقدِسِ، فَأَدرَكَهُ أَجَلُهُ بِفِحلٍ فَماتَ بِهَا، وَأَوصَى: أَقرِئُوا أَمِيرَ المُؤمِنِينَ السَّلَامَ، وَأَعلِمُوهُ أَنَّهُ لَم يَبقَ مِن أَمَانَتي شَيءٌ إِلَّا وَقَد قُمتُ بِهِ وَأَدّيتُهُ إِلَيهِ. وَقَد كَانَ بَعثَ إِليَّ مِئَةَ دِينَارٍ، فَرُدُّوهَا إِلَيهِ. فَقَالُوا: إِنَّ في قَومِكَ مَسكَنَةً وَحَاجَةً. فقال: رُدُّوهَا إليه. وَادفِنُونِي غَربِيَّ نَهرِ الأُردُنِ: إِلَى الأَرضِ المُقَدسَةِ. ـ ثم قال: ـ ادفِنُونِي حَيثُ قُبِضتُ؛ فَإِنَّنِي أَتَخَوّفُ أَن يَكُونَ سُنَّةً» (١).

إِنَّ أَيَّةَ قِرَاءةٍ لِوَصِيّةِ هَذَا الصَّحَابِيِّ الجَلِيلِ يُقصَدُ بِهَا فَهمُ النَّصِّ في إِطَارِ سِيَاقِهِ الطَّبِيعِيِّ سَتَصِلُ بِالقَارِئِ إِلَى أَنَّ أَبَا عُبَيدَةَ - رضي الله عنه - كَانَ يُنزِلُ فِلسطِينَ وَالقُدسَ مِن نَفسِهِ مَنزِلَةً عَظِيمَةً، فَهُو أَصلًا كَانَ مُتَوجِّهًا إِلَى القُدسِ لِلصَّلَاةِ فِيهَا، ثُمَّ هُو قَد رَغِبَ عِندَمَا أَحسَّ بِدُنُوِّ أَجلِهِ في أَن يُدفَنَ في الأَرضِ المُقدَّسةِ


(١) فضائل بيت المقدس والخليل عليه الصلاة والسلام وفضائل الشام (ص: ١٩١، ١٩٢).

<<  <   >  >>