كراهة الصلاة في المساجد المبنية على القبور
بعد أن انتهينا من الإجابة عن الشبهات المتقدمة وتبين منها للقارئ الكريم أن تحريم بناء المساجد على القبور حكم ثابت مقرر إلى يوم الدين وفرغنا من بيان حكمة التحريم يحسن بنا أن ننتقل إلى مسألة أخرى هي من لوازم الحكم المذكور ألا وهي حكم الصلاة في هذه المساجد المبنية على القبور
ذكرنا فيما سبق (ص ٣٠) أن النهي عن بناء المساجد على القبور يستلزم النهي عن الصلاة فيها من باب أن النهي عن الوسيلة يستلزم النهي عن الغاية بالأولى والأحرى فينتج من ذلك أن الصلاة في هذه المساجد منهي عنها والنهي في مثل هذا الموضع يقتضي البطلان كما هو معروف عند العلماء (١٣٧) وقد قال ببطلان الصلاة فيها الإمام أحمد وغيره ولكنا نرى أن المسألة تحتاج إلى تفصيل فأقول: الثاني: أن الصلاة فيها ذريعة لتعظيم المقبور فيها تعظيما خارجا عن حد الشرع فينهى عنها احتياطا وسدا للذريعة لا سيما ومفاسد المساجد المبنية على القبور ماثلة للعيان كما سبق مرارا وقد نص العلماء على كل من العلتين فقال العلامة ابن الملك من علماء الحنفية:
إنما حرم اتخاذ المساجد عليها لأن الصلاة فيها استنانا بسنة اليهود
نقله الشيخ القاري في " المرقاة " (١ / ٤٧٠) وأقره وكذلك قال بعض العلماء المتأخرين من الحنفية وغيرهم كما سيأتي
وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية في " القاعدة الجليلة " (ص ٢٢) :
واتخاذ المكان مسجدا هو أن يتخذ للصلوات الخمس وغيرها كما تبنى المساجد لذلك والمكان المتخذ مسجدا إنما يقصد فيه عبادة الله ودعاؤه لا دعاء المخلوقين فحرم صلى الله عليه وسلم أن تتخذ قبورهم مساجد تقصد للصلوات فيها كما تقصد المساجد وإن كان القاصد لذلك إنما يقصد عبادة الله وحده [لأن ذلك ذريعة إلى أن يقصدوا المسجد لأجل صاحب القبر ودعائه والدعاء عنده] فنهى رسول الله صلى الله
فسوغها كثير منهم في هذه الأوقات وهو أظهر قولي العلماء لأن النهي إذا كان لسد الذريعة أبيح للمصلحة الراجحة وفعل ذوات الأسباب يحتاج إليه فيه هذه الأوقات ويفوت إذا لم يفعل فيها مصلحتها فأبيحت لما
فيها من المصلحة بخلاف ما سبب له فإنه يمكن فعله في غير هذا الوقت فلا تفوت
بالنهي عنه مصلحة راجحة وفيه مفسدة توجب النهي عنه. فإذا كان نهيه عن الصلاة في
هذه الأوقات لسد ذريعة الشرك لئلا يفضي ذلك إلى السجود للشمس ودعائها وسؤالها كما يفعله أهل دعوة الشمس والقمر والكواكب الذين يدعونها ويسألونها كان معلوما أن دعوة الشمس والسجود لها هو محرم لنفسه وأعظم تحريما من الصلاة التي نهى عنها لئلا يفضي إلى دعاء الكواكب كذلك لما نهى عن اتخاذ قبور الأنبياء والصالحين مساجد فنهى عن قصدها للصلاة عندها لئلا يفضي ذلك إلى دعائهم كان دعاؤهم والسجود أعظم تحريما من اتخاذ قبورهم مساجد
واعلم أن كراهة الصلاة في هذه المساجد هو امر متفق عليه من العلماء كما سبق بيانه (ص ٤٤) ويأتي وإنما اختلفوا في بطلانها وظاهر مذهب الحنابلة أنها لا تصح وبه جزم المحقق ابن القيم كما تقدم (ص ٤١٤٣) وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في " اقتضاء الصراط المستقيم مخالفة أصحاب الجحيم " (ص ١٥٩) : وذكر نحوه العيني الحنفي في (عمدة القارىء) (٤ / ١٤٩) وفي (الكوكب الدري علىجامع الترمذي) لشيخ المحقق محمد يحيى الكاندهلوي الحنفي مانصه (ص ١٥٣) :
(وأما أتخاذ المساجد عليها
فلما فيه من التشبيه باليهود واتخاذهم مساجد على قبور أنبيائهم وكبرائهم ولما فيه من تعظيم الميت وشبه بعيدة بعبدة الأصنام لو كان القبر في جانب القبلة وكراهة كونه في جانب القبلة أكثر من كراهة كونه يمينا أو يسارا وإن كان خلف المصلي فهو أخف من كل ذلك لكن لا يخلو عن كراهة "