٧١٠٢ - الزهريُّ عن عروةَ بن الزبير، وسعيدٍ بنِ المسيبِ وعلقمةَ بنِ وقاصٍ وعبيدِ الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعودٍ، عن حديث عائشة، حين قالَ لها أهلُ الإِفكِ ما قالوا فبرّأها الله مما قالُوا، قال الزهري: وكلهُم، حدثني طائفةٌ من حديثَها، وبعضهم كان أوعى لهُ من بعضٍ، وأثبتهم له، وقد وعيتُ عن كلِ واحدٍ منهم الحديثَ الذي حدثني عن عائشة، وبعض حديثهم يُصدِّقُ بعضًا، قالت: كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - إذا أراد أن يخرج سفرًا أقرع بين أزواجه، فأيتهنَ خرجَ سهمها خرج بها
⦗١٦٨⦘ معه، قالت: فأقرع بيننا في غزوةٍ غزاها، فخرج فيها سهمي، فخرجتُ معه بعد ما أنزلَ الحجابُ، وأنا أُحملُ في هودجي، وأنزلُ فيهِ، فسرنا حتى إذا فرغ - صلى الله عليه وسلم - من غزوتهِ تلك، وقفل ودنونا من المدينةِ آذن ليلةً بالرحيلِ، فقمتُ حين آذنُوا بالرحيلِ، فمشيتُ حتى جاوزتُ الجيش، فلمَّا قضيتُ من شأني أقبلت إلى الرحل فلمستُ صدري، فإذا عقدٌ لي من جزع ظفارٍ قد انقطعَ، فرجعتُ فالتمستُ عقدي فحبسني ابتغاؤُهُ، وأقبلَ الرهطُ الذين كانُوا يرحلونَ بي فاحتملُوا هودجي، فرحلوهُ على بعيري الذي كنتُ أركبُ وهم يحسبونَ أني فيهِ، وكان النساءُ إذ ذاكَ خفافًا لم يهبلنَ ولم يغشهنَّ اللحمُ، وإنما يأكلنَ العلقةَ منَ الطعام، فلم يستنكر القومُ حين رفعوهُ خفة الهودجِ فحملُوهُ، وكنتُ جاريةً حديثةَ السنِّ، فبعثُوا الجمل وساروا، فوجدتُ عقدي بعد ما استمرَّ الجيشُ، فجئتُ منزلهم، وليس فيه أحدٌ، فتيممتُ منزلي الذي كنتُ فيهِ، وظننتُ أنهم سيفقدونني فيرجعون إلىَّ، فبينا أنا جالسةٌ غلبتني عينايَ فنمتُ، وكان صفوانُ بنُ المعطلِ السلمي، ثم الذكواني قد عرسَ من وراءِ الجيشِ، فأدلج فأصبح عند منزلي فرأى سوادَ إنسانٍ نائمٍ، فأتاني فعرفني حين رآني، وكان يراني قبل الحجابِ، فاستيقظتُ باسترجاعه حين عرفني، فخمرتُ وجهي بجلبابي، والله ما يكلمني بكلمةٍ، ولا سمعتُ منهُ
كلمةً غير استرجاعهِ، وهوىَ حتى أناخَ راحلتهُ فوطئ على يدها فركبتُها، فانطلق يقودُ بي الراحلةَ حتى أتينا الجيش بعد ما نزلوا موغرين في نحر الظهيرةِ، فهلك من هلك في شأني، وكان الذي تولى كبر الإِفك عبد الله بنُ أبيٍّ بن سلولَ، فقدمنا المدينة فاشتكيتُ بها شهرًا، والناسُ يفيضون في قولِ أصحابِ الإِفكِ، ولا أشعرُ،
⦗١٦٩⦘ وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - اللطفَ الذي كنتُ أرى منهُ حينَ أشتكي، إنما يدخلُ فيسلمُّ فيقول: ((كيف تيكم))؟
ثم ينصرفُ، فذلك الذي يريبنى منهُ، ولا أشعرُ بالشرِّ حتى نقهتُ، فخرجتُ أنا وأمُّ مسطحٍ قبلَ المناصع، وهي متبرزنا، وكنا لا نخرجُ إلا ليلاً إلى ليلٍ.
وذلك قبلَ أن نتخذ الكنفُ قريبًا من بيوتنا، وأمرنا أمر العربِ الأولِ في التبرز قبلَ الغائط، وكنَّا نتأذى بالكنفِ، أن نتخذها عند بيوتنا، فأقبلتُ أنا وأمُّ مسطحٍ وهي ابنةُ أبي رُهم بنُ المطلبِ بنِ عبدِ منافٍ، وأمها بنتُ صخرٍ بنُ عامرِ خالةُ أبي بكرٍ وابنها مسطح بُن أثاثةَ بن عبادٍ بن المطلب، حين فرغنا من شأننا نمشي، فعثرت أمُّ مسطحٍ في مرطها، فقالت: تعس مسطحٌ، فقلتُ لها: بئس ما قلت، أتسبينَ رجلاً شهدَ بدرًا؟
فقالت: يا هنتاهُ ألم تسمعي ما قالَ؟
قلتُ: وما قالَ؟
فأخبرتني بقولِ أهلِ الإِفكِ، فازددتُ مرضًا إلى مرضي، فلمَّا رجعتُ إلى بيتي دخلَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم -، فسلمَّ، وقال: ((كيف تيكم))؟
فقلتُ ائذن لي إلى أبوىَّ، وأنا حينئذٍ أريدُ أن أستيقن الخبر من قبلهما، فأذن لي، فأتيتُ أبوىَّ، فقلتُ لأمي: يا أمتاهُ ماذا يتحدثُ الناسُ بهِ؟
فقالت: يا بنيةُ هوني على نفسكِ الشأن، فوالله لقلَّما كانت امرأةٌ قطُّ وضيئةً عند رجلٍ يحبها، ولها ضرائرُ إلا أكثرن عليها، فقلتُ: سبحان الله، ولقد تحدثَ الناسُ بهذا، فبكيتُ تلكَ الليلةَ حتى أصبحت لا يرقأُ لي دمعُ، ولا أكتحلُ بنومٍ، ثم أصبحتُ أبكي، فدعا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - عليًا وأسامةَ حينَ استلبثَ الوحيُ يستشيرهُما في فراقِ أهلهِ، فأما أسامة فأشارَ إليه بما يعلمُ من براءةِ أهلهِ، وبالذي يعلمُ في نفسهِ من الودِّ لهم، فقالَ أسامة: هم أهلكَ يا رسول َ الله، ولا نعلمُ والله إلا خيرًا، وأمَّا على فقالَ: يا رسولَ الله لم يضيقِ الله عليكُ، والنساءُ سواها كثيرٌ، واسألِ الجارية تصدقك، فدعَا - صلى الله عليه وسلم - بريرةَ، فقال: ((أي، بريرة، هل رأيتٍِ فيها ما يريبكِ))؟
قالت لهُ: لا والذي بعثك بالحقِ، إن رأيتُ منها أمرًا أغمصهُ عليها أكثر من أنها جاريةٌ حديثةُ السنِّ، تنامُ عن عجين أهلها، فيأتي الداجنُ فيأكلهُ، فقام - صلى الله عليه
⦗١٧٠⦘ وسلم - من يومهِ، فاستعذر من ابن أبي بن سلول، فقال وهو علىَ المنبر: ((من يعذرني من رجلٍ بلغني أذاهُ في أهلي، فوالله ما علمتُ على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلاً ما علمتُ عليهِ إلا خيرًا، وما كان يدخلُ على أهلي إلا معي))، فقامَ سعدُ بنُ معاذٍ، فقال: يا رسولَ الله أنا والله أعذركَ منهُ، إن كانَ من الأوس ضربنا عنقهُ، وإن كانَ من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا فيه أمرك، فقام سعدُ بنُ عبادةَ وهو سيدُ الخزرج، وكانت أمُّ حسان بنتَ عمه من فخذهِ، وكان رجلاً صالحًا، ولكن احتلمتهُ الحميةُ، فقال لسعدِ بن معاذٍ، كذبتَ، لعمرُ الله لا تقتلهُ ولا تقدرُ على ذلك، فقام أسيدُ بنُ حضيرٍ وهو ابنُ عمِ سعدِ بن معاذٍ، فقالَ لسعدِ بن عبادةَ كذبتَ، لعمرُ الله لنقتلنَّهُ، فإنك منافقٌ تجادلُ عن المنافقينَ، فتثاور الحيانِ الأوسُ والخزرجُ حتى همُّوا أن يقتتلوا، ورسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - قائمٌ على المنبرِ فلم يزل يخفضهُم حتى سكتُوا، وسكت.
وبكيتُ يومي ذلك لا يرقأُ لي دمعٌ ولا أكتحل بنومٍ، ثم بكيتُ ليلتي المقبلة لا يرقأُ لي دمعٌ ولا أكتحلُ بنومٍ، فأصبحَ عندي أبواي، وقد بكيتُ ليلتين ويومًا حتى أظنَّ أنَّ البكاءَ فالقٌ كبدي، فبينما هما جالسانِ عندي وأنا أبكي، إذا استأذنتِ امرأةٌ من الأنصارِ، فأذنتُ لها، فجلست تبكي معي، فبينا نحنُ كذلك إذ دخل علينا رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - فسلمَّ، ثم جلس، ولم يجلس عندي من يوم قيلَ لي ما قيل قبلها، وقد مكث شهرًا لا يُوحى إليه في شأني بشيءٍ، فتشهَّدَ حينَ جلسَ ثم قال: ((أمَّا بعدُ يا عائشةُ: فإنهُ بلغني عنكِ كذا وكذا، فإن كنت بريئةً فسيبرئكِ الله، وإنَّ كنتِ ألممتِ بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه، فإنَّ العبد إذا اعترف بذنبهِ ثمَّ تابَ، تابَ الله عليهِ)) فلمَّا قضى مقالتهُ قلص دمعي، حتى ما أحسُّ منهُ قطرةً، وقلتُ لأبي: أجب رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - فيما قالَ، قال: والله ما أدري ما أقولُ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلتُ لأمي: أجيبي عني، قالت والله ما أدري ما أقولُ لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وأنا جاريةٌ حديثةُ السنِّ لا أقرأُ كثيرًا من القرآن،
⦗١٧١⦘ فقلتُ: إني والله لقد علمتُ أنكم سمعتم ما تحدث بهِ الناسُ حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به، فلئن قلتُ لكم: إني بريئةٌ لا تصدقوني بذلك، ولئن اعترفتُ لكُم بأمرٍ، والله يعلمُ أني منهُ بريئةٌ لتصدقوني، فوالله ما أجدُ لي ولكُم مثلاً، إلا أبا يوسف إذ قال {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَالله الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ} [يوسف: ١٨] ثم تحولتُ فأضجعتُ على فراشي، وأني والله حينئذٍ أعلمُ أني بريئةٌ وأنَّ الله مبرئني ببراءتي، ولكنَّ والله ما كنتُ أظنُّ أن يُنزلَ الله في شأني وحيًا يُتلى، ولشأني في نفسي كان أحقرُ من أن يتكلمَ الله فىَّ بأمرٍ يُتلى، ولكن كنتُ أرجو أن يرىَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - في النوم رؤيا يبرئُني الله
بها، فوالله ما رامَ مجلسهُ، ولا خرج أحدٌ منِ أهلِ البيتِ حتى أنزل الله إلى نبيهِ، فأخذَ ما كان يأخذهُ من البرحاءِ، حتى إنهُ لينحدرُ منهُ مثلُ الجمانِ من العرقِ في يومٍ شاتٍ، من ثقلِ القوِل الذي أُنزل عليه. فسرِّى عنه، وهو يضحكُ، فكان أولُ كلمةٍ تكلَّم بها أن قال لي: ((يا عائشةُ! احمدى الله، أما والله فقد برأكِ)) فقالت أمي: قومي إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقلتُ: لا والله لا أقومُ إليه ولا أحمدُ إلا الله، هو الذي أنزل براءتي، فأنزل الله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْأِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ} [النور: ١١] العشر الآيات، فلمَّا أنزل الله هذا في براءتي، قال أبو بكرٍ وكان ينفقُ على مسطح بنِ أثاثةَ لقرابتهِ منهُ وفقرهِ، والله لا أنفقُ على مسطحٍ شيئًا أبدًا بعد ما قال لعائشةَ، فأُنزلَ {وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ - إلى- رَحِيمٌ} [النور: ٢٢] فقال أبو بكرٍ بلى: والله إني لأحبُّ أن يغفر الله لي، فرجعَ إلى مسطحٍ الذي كانَ يجري عليهِ، فقال: والله لا أنزعها منهُ أبدًا، قالت: وكانَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - سألَ زينب بنتَ جحشٍ عن أمري، فقال: ((يا زينبُ، ما علمتِ ما رأيتِ؟)) فقالت يا رسولَ الله!
احمي سمعي وبصري، والله ما علمتُ عليها إلا خيرًا، وهي التي كانت تساميني من أزواج النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، فعصمها الله بالورع، فطفقت أختها حمنة تحاربُ لها، فهلكت فيمن هلكَ من أصحاب الإِفكِ.
قال ابنُ شهابٍ فهذا الذي بلغني من حديث هؤلاء الرَّهطِ (١).
(١) البخاري (٤١٤١)، ومسلم (٢٧٧٠).