للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

والتضييق على النفس (١)، لأنه إذا كان في مدينة من المدائن، أو قرية من القرى فلا ريب أن الحلال موجود غير معدوم، يمكن استخراجه بإخفاء السؤال والمبالغة في البحث، ولا بد أن يوجد من هو بمحل من العدالة فيكون قوله مقبولا إذا قال ليس هذا الطعام الذي عندي أو الذي عند فلان من المال المنهوب، ثم لو فرضنا أنه لم يبق في ذلك المحل من يعمل بقوله، وكان المال المنهوب قد دخل منه على كل أحد نصيب، فلا يعدم الإنسان في غير ذلك المحل ما يسد به رمقه مما لم يختلط بالطعام المنهوب، كما كان يفعل النووي - رحمه الله - فإنه كان يتقوت مما يرسل به إليه والده من بلاده التي هي وطنه ومنشؤه، نعم إذا لم يكن لهذا المتورع قدرة [١٨] على استخراج ما هو خالص عن شائبة الحرام من أهل بلده، ولا يتمكن من استخراجه من غير بلاده، واختلط المعروف بالإنكار، ولم يبق له إلى الحلال المطلق سبيل، وكان ذلك الاشتباه والاختلاط واقعا في نفس الأمر على مقتضى الشرع، ولم يكن ناشئا عن الوسوسة التي هي من مقدمات الجنون، كما نشاهده في وسوسة من ابتلي بالشك في الطهارة فلا بأس بعدوله إلى أكل العشب، بشرط عدم تجويز الضرر والاقتدار على سد الرمق منه، ولا ريب أن هذا هو ورع الورع، وزهد الزاهد. وأما مع تجويز الضرر أو مع الاقتدار على سد الرمق منه فقد


(١) أخرج البخاري رقم (٥٠٦٣) ومسلم رقم (١٤٠١) عن أنس رضي الله عنه قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، يسالون عن عبادة النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فلما أخبروا كأنهم تقالوها، وقالوا: أين نحن من النبي - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فأصلي الليل أبدا، وقال الآخر: وأنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا. فجاء رسول الله - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إليهم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا؟ أما والله إني لأخشاكم لله تعالى وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني".