للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

قَوْلِهِ: "وَمَنِ ابْتَدَعَ بِدْعَةً ضَلَالَةً" (١)، فَجَعَلَ مُقَابِلَ تِلْكَ السُّنَّةِ الِابْتِدَاعَ، فَظَهَرَ أَنَّ السُّنَّةَ الْحَسَنَةَ ليست بمبتدعة، وكذلك قوله صلّى الله عليه وسلّم: "وَمَنْ أَحْيَا سُنَّتِي فَقَدْ أَحَبَّنِي" (٢).

وَوَجْهُ ذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الْأَوَّلِ ظَاهِرٌ، لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلّم لما حض (٣) عَلَى الصَّدَقَةِ أَوَّلًا، ثُمَّ جَاءَ ذَلِكَ الْأَنْصَارِيُّ بِمَا جَاءَ بِهِ، فَانْثَالَ (٤) بَعْدَهُ الْعَطَاءُ إِلَى الْكِفَايَةِ، فَكَأَنَّهَا كَانَتْ سُنَّةً أَيْقَظَهَا رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ بِفِعْلِهِ، فَلَيْسَ مَعْنَاهُ مَنِ اخْتَرَعَ سُنَّةً وَابْتَدَعَهَا وَلَمْ تَكُنْ ثَابِتَةً.

وَنَحْوَ هَذَا (٥) الْحَدِيثِ فِي رَقَائِقِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، مِمَّا يُوضِّحُ معناه، عن حذيفة رضي الله تعالى عنه، قَالَ: قَامَ سَائِلٌ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَ، فَسَكَتَ الْقَوْمُ، ثُمَّ إِنَّ رَجُلًا أَعْطَاهُ، فَأَعْطَاهُ الْقَوْمُ، فَقَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من اسْتَنَّ خَيْرًا فَاسْتُنَّ بِهِ، فَلَهُ أَجْرُهُ وَمِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، غَيْرَ مُنْتَقِصٍ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا، وَمَنِ اسْتَنَّ شَرًّا فَاسْتُنَّ بِهِ، فَعَلَيْهِ وِزْرُهُ وَمِثْلُ أَوْزَارِ مَنْ تَبِعَهُ، غَيْرَ مُنْتَقِصٍ من أوزارهم شيئاً (٦) " (٧).

فإذن قَوْلُهُ: "مَنْ سَنَّ سُنَّةً" مَعْنَاهُ مَنْ عَمِلَ بِسُنَّةٍ، لَا مَنِ اخْتَرَعَ سُنَّةً (٨).

وَالْوَجْهُ (٩) الثَّانِي مِنْ وَجْهَيِ الْجَوَابِ (١٠): أَنَّ قَوْلَهُ: "مَنْ سَنَّ سنة


(١) تقدم تخريجه (ص٣٣).
(٢) تقدم تخريجه (ص٣٤).
(٣) في (خ) و (ط): "مضى".
(٤) انثال: أي انصب، قال في الصحاح: وتناثل الناس إليه، أي انصبوا. انظر الصحاح (٥/ ١٨٢٥).
(٥) ساقطة من (م) و (ت) و (غ) و (ر).
(٦) ساقطة من (خ) و (ط).
(٧) رواه الإمام ابن المبارك في الزهد والرقائق (ص٥١٣)، والإمام أحمد في المسند (٥/ ٣٨٧)، والبزار في مسنده كما في كشف الأستار (١/ ٨٩) برقم (١٥٠)، والطبراني في معجمه الأوسط كما في مجمع البحرين (١/ ٢٢٢ ـ ٢٢٣) برقم (٢٣٨) وقال الهيثمي في المجمع: رجاله رجال الصحيح إلا أبا عبيدة بن حذيفة وقد وثقه ابن حبان (١/ ١٧٢)، ويشهد له حديث أبي هريرة عند مسلم، وتقدم تخريجه (ص١١٨) وحديث جرير بن عبد الله عند مسلم وغيره، وتقدم تخريجه (ص١١٩).
(٨) عبارة (غ): "لا من اخترعها".
(٩) في (خ): "والجواب".
(١٠) أي من وجهي الجواب على أن المراد بحديث "من سن سنة" العمل بما ثبت من السنة لا الاختراع.