للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[معنى قول الشارح: (وعطاؤه كلام)]

قال الشارح رحمه الله: [بخلاف العبد فإنه قد يعطي السائل مسألته؛ لحاجته إليه، أو لخوفه منه أو رجائه، فيعطيه مسألته وهو كاره.

فاللائق بالسائل للمخلوق أن يعلق حصول حاجته على مشيئة المسئول؛ مخافة أن يعطيه وهو كاره، بخلاف رب العالمين، فإنه تعالى لا يليق به ذلك؛ لكمال غناه عن جميع خلقه، وكمال جوده وكرمه، وكلهم فقير إليه، محتاج لا يستغني عن ربه طرفة عين، وعطاؤه كلام].

قوله: (وعطاؤه كلام) يعني: أنه يقول للشيء: كن فيكون: {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [النحل:٤٠]، وفي الحديث القدسي الذي رواه مسلم، وفيه تعليم للعباد من الله جل وعلا، يروي الرسول صلى الله عليه وسلم عن ربه تبارك وتعالى أنه قال: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي، وجعلته بينكم محرماً؛ فلا تظالموا).

والظلم الذي حرمه الله على نفسه جل وعلا لم يلزمه أحد بذلك، هو الذي حرمه على نفسه تكرماً وجوداً، والظلم في اللغة هو وضع الشيء في غير موضعه وهو كذلك في الشرع.

ويقول: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني)، الله هو الغني عن كل الخلق، ما أحد يضره، ولا أحد ينفعه، وأعمال أهل المعاصي والكفر والفجور، وأهل محاربة الله ومعاداة الله، ومعاداة أوليائه، هذه الأعمال كلها ما يضرون بها إلا أنفسهم، ولا يضرون الله شيئاً.

والله جل وعلا قد جعل لهم موعداً يأتون إليه ذليلين صاغرين، كل واحد يأتي فرداً كيوم ولدته أمه، ليس عليه حتى شيء يستر عورته، يأتون إليه ما معهم خول ولا مال ولا استعداد ولا أي شيء.

فهناك يجزيهم الجزاء الذي يستحقونه، أما هذه الدنيا فهي ذاهبة بسرعة، ولو جازى أناساً في الدنيا، فعذبهم في الدنيا، فما تكفي مجازاتهم وعذابهم في الدنيا؛ لأنه ينقطع العذاب وينتهي، يموت الإنسان ثم ينقطع عذابه، وليست الدنيا محلاً لتعذيب الناس، وإنما يعذبهم الله بعذابه الذي أخبر الله جل وعلا عنه بقوله: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ} [النساء:٥٦]، {يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ} [المائدة:٣٧]، {كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ} [السجدة:٢٠]، ولهذا يقول جل وعلا: {نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ} [الحجر:٤٩ - ٥٠]، ما فيه عذاب مثل عذاب الله أبداً، فهو عذاب مستمر، ومع ذلك ما يخلص الموت إلى المعذب فيستريح، ولا يخفف عنه من العذاب، كلما احترق الجلد أعيد مرة أخرى، وهكذا.

يقول: (يا عبادي! إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم، ما زاد ذلك في ملكي شيئاً)؛ لأن النفع يكون لهم فقط، فيجزون بأعمالهم، ثم يقول: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم، وإنسكم وجنكم، قاموا في صعيد واحد فسألوني، فأعطيت كل واحد مسألته؛ ما نقص ذلك مما عندي إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر)، المخيط: الإبرة، فإذا أدخلت البحر ورفعت هل تنقص من البحر شيئاً؟ هذا مجرد تمثيل، وإلا فالله جل وعلا لا ينفد ما عنده.

وقوله: (عطاؤه كلام) يعني: أنه إذا أراد الشيء قال له: كن فيكون تعالى الله وتقدس، ما يعجز الله شيئاً في الأرض ولا في السماء.

فعلى هذا لا داعي إلى أن الإنسان يستعظم المسألة التي يسألها من الله، فالله يعطي الشيء الكثير العظيم ولا يبالي تعالى وتقدس، غير أنه جل وعلا يعطي من يستحق العطاء؛ لأنه عليم بالعباد: {اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ} [الأنعام:١٢٤]، وهو جل وعلا كما يقول: {وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ} [القصص:٦٨]، له الاختيار، وله الخلق، وله العطاء، وله المنع، ولكن إذا منع أحداً فهو عدل، وإذا أعطى أحداً فهو فضل.

قال الشارح رحمه الله: [وفي الحديث: (يمين الله ملأى، لا يغيضها نفقة، سحاء الليل والنهار، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض؟ فإنه لم يغض ما في يمينه، وفي يده الأخرى القسط يخفضه ويرفعه)، يعطي تعالى لحكمة، ويمنع لحكمة، وهو الحكيم الخبير.

فاللائق بمن سأل الله أن يعزم المسألة].

معنى العزم في المسألة: أن يقبل برغبة وإلحاح، هذا هو العزم في المسألة، ما يكون متردداً، بل يقبل على ربه جل وعلا راغباً.