للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم تقسيم النصوص إلى ظاهر وباطن]

قال الشارح رحمه الله: [وتأمل ما في هذه الأحاديث الصحيحة من تعظيم النبي صلى الله عليه وسلم ربه، بذكر صفات كماله على ما يليق بعظمته وجلاله، وتصديقه اليهود فيما أخبروا به عن الله من الصفات التي تدل على عظمته، وتأمل ما فيها من إثبات علو الله تعالى على عرشه، ولم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في شيء منها: إن ظاهرها غير مراد، وإنها تدل على تشبيه صفات الله بصفات خلقه، فلو كان هذا حقاً بلغه أمينه أمته، فإن الله أكمل به الدين، وأتم به النعمة، فبلغ البلاغ المبين صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن تبعهم إلى يوم الدين].

وكذلك مسألة علو الله على خلقه، فهذه من المسائل الكبار التي خالف فيها هؤلاء المتكلمون، وسموا بالمتكلمين؛ لأن دينهم في الحقيقة الكلام، والجدل، ويسمون كلامهم توحيداً، وهو في الحقيقة شكوك وظنون وشبه، أما التوحيد فهو في كتاب الله وأحاديث رسوله صلى الله عليه وسلم، فأنكروا أن يكون الله عالياً على خلقه، مع أن أحد العلماء استخرج من كتاب الله ما يقرب من ألف دليل على علو الله، وعلو الله مفطور عليه الإنسان، فإنه لا يمكن لإنسان أن يدعو ربه ويقول: يا رب إلا ويجد في نفسه دافعاً يدفعه إلى أن يطلب ربه من فوق، وهذا شيء خلقه الله جل وعلا في الأنفس، وهو مستقر فيها، لا ينكره إلا مكابر، أما أدلة الكتاب والسنة على ذلك فأكثر من أن تحصى، وسبق أن ذكرنا أن الرسول صلى الله عليه وسلم سأل أصحابه في آخر حياته صلوات الله وسلامه عليه فقال: (إنكم مسئولون عني، فماذا أنتم قائلون؟ فقالوا: نشهد أنك بلغت الرسالة، وأديت الأمانة، ونصحت الأمة، فصار يرفع أصبعه إلى السماء ثم ينكسها عليهم، ويقول: اللهم اشهد، اللهم اشهد) إشارة إلى أن ربهم في السماء جل وعلا، وفي صحيح مسلم: (أن معاوية بن الحكم السلمي قال: كانت لي جارية -يعني: مملوكة- ترعى لي غنماً عند أحد، فاطلعت عليها يوماً فوجدت الذئب قد أخذ شاة منها، فغضبت فصككتها في وجهها، ثم ندمت، وأنا رجل من بني آدم آسف كما يأسفون، فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا رسول الله! إنه حدث مني كذا وكذا؛ فعظم الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، فقلت: يا رسول الله! أفلا أعتقها؟ قال: ائتني بها، يقول: فذهبت فجئت بها إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال لها: أين الله؟ فأشارت بيدها وقالت: في السماء، فقال: من أنا؟ قالت: أنت رسول الله، فقال: اعتقها فإنها مؤمنة)، حكم الرسول صلى الله عليه وسلم على أنها مؤمنة بقولها: الله في السماء، مع قولها: أنت رسول الله، وهذا يوافق قول الله جل وعلا: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الأَرْضَ} [الملك:١٦] من الذي يخسف بنا الأرض؟ {أَمْ أَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا} [الملك:١٧] و (في) هنا المقصود به: العلو، أي: أأمنتم من في العلو من فوقكم، وليس (في) هنا ظرفية، إلا أنه يجوز أن تكون (في) هنا بمعنى (على)، أي: أأمنتم من على السماء؛ لأن (في) تأتي بمعنى (على) كما قال الله جل وعلا في قصة فرعون: {َلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ} [طه:٧١]، وليس المقصود أن يدخلهم في جذوع النخل، بل يصلبهم فوقها، ويقول الله جل وعلا: {قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ} [الأنعام:١١] هل المقصود يدخلون في باطن الأرض؟ أبداً، بل يسيرون عليها.

فالمقصود أن (في) تأتي بمعنى (على)، فإما أن يقال هنا: {أَأَمِنتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ} (في) بمعنى (على)، أو يقال: إن السماء المقصود بها العلو، وهذا حق، ويقول الله جل وعلا في قصة عيسى: {إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ} [آل عمران:٥٥].

ويقول الله جل وعلا في كتابه: {تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ} [المعارج:٤]، ويقول: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فاطر:١٠]، ويقول: {تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ} [الزمر:١] ينزل الوحي من السماء، والأدلة كثيرة جداً لا حصر لها، {إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [الأعراف:٥٤]، وسبق لنا أن العرش هو أعظم المخلوقات وأكبرها، وليس فوق العرش شيء من المخلوقات أصلاً، ما فوقه إلا الله جل وعلا، فما أكثر أدلة علو الله جل وعلا، تقول زينب رضي الله عنها -وهي تفتخر على أزواج النبي- (زوجكن أهاليكن، وأنا زوجني الله من فوق سبع سماوات)، وعلو الله ثابت حتى في كلام أهل الجاهلية.