للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

[كلام ابن القيم عن مراحل التنقل إلى عبادة القبور]

قال الشارح رحمه الله: [وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: لما ماتوا عكفوا على قبورهم، ثم صوروا تماثيلهم، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم.

قوله: (وقال ابن القيم رحمه الله): هو الإمام العلامة محمد بن أبي بكر بن أيوب الزرعي الدمشقي المعروف بـ ابن قيم الجوزية].

إذا جاءت إضافةٌ لا بد أن تحذف (أل)؛ لأن (قيم) معناه: مدير المدرسة، و (الجوزية): مدرسة.

قال الشارح رحمه الله: [قال الحافظ السخاوي: العلامة الحجة، المتقدم في سعة العلم ومعرفة الخلاف وقوة الجنان، المُجْمَع عليه بين الموافق والمخالف، صاحب التصانيف السائرة والمحاسن الجمة، مات سنة إحدى وخمسين وسبعمائة.

قوله: (وقال غير واحد من السلف) هو بمعنى ما ذكره البخاري وابن جرير، إلَّا أنه ذكر عكوفهم على قبورهم قبل تصويرهم تماثيلهم، وذلك من وسائل الشرك، بل هو الشرك؛ لأن العكوف لله في المساجد عبادة، فإذا عكفوا على القبور صار عكوفُهم -تعظيماً ومحبةً- عبادةً لها.

قوله: (ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم) أي: طال عليهم الزمان، وسبب تلك العبادة والمُوصِل إليها هو: ما جرى من الأولين من التعظيم بالعكوف على قبورهم، ونصب صورهم في مجالسهم، فصارت بذلك أوثاناً تُعبد من دون الله، كما ترجم به المصنف رحمه الله تعالى، فإنهم تركوا بذلك دين الإسلام الذي كان أولئك عليه قبل حدوث وسائل هذا الشرك، وكفروا بعبادة تلك الصور واتخذوهم شفعاء، وهذا أول شرك حدث في الأرض.

قال القرطبي: وإنما صور أوائلُهم الصور ليتأسوا بها ويتذكروا أفعالهم الصالحة، فيجتهدوا كاجتهادهم، ويعبدوا الله عند قبورهم، ثم خلفهم قوم جهلوا مرادهم فوسوس لهم الشيطان أن أسلافهم كانوا يعبدون هذه الصور ويعظمونها.

انتهى.

قال ابن القيم رحمه الله: وما زال الشيطان يوحي إلى عُبَّاد القبور ويُلقي إليهم أن البناء والعكوف عليها من محبة أهل القبور من الأنبياء والصالحين، وأن الدعاء عندها مستجاب.

ثم ينقلهم من هذه المرتبة إلى الدعاء به، والإقسام على الله به، فإن شأن الله أعظم من أن يُقسم عليه أو يسأل بأحد من خلقه.

فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعائه وعبادته وسؤاله الشفاعة من دون الله، واتخاذ قبره وثناً تُعلَّق عليه القناديل والستور، ويُطاف به ويُستلَم ويُقَبَّل ويُحَجُّ إليه ويُذْبَح عنده.

فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى دعاء الناس إلى عبادته، واتخاذه عيداً ومنسكاً، ورأوا أن ذلك أنفع لهم في دنياهم وأخراهم.

وكل هذا مما قد عُلم بالاضطرار من دين الإسلام أنه مضاد لما بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم من تجريد التوحيد وألَّا يُعبَد إلَّا الله.

فإذا تقرر ذلك عندهم نقلهم منه إلى أن مَن نهى عن ذلك فقد تنقَّص أهل هذه الرتب العالية وحطَّهم عن منزلتهم، وزعم أنه لا حرمة لهم ولا قدر، وغضب المشركون واشمأزت قلوبهم كما قال تعالى: {وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [الزمر:٤٥] وسرى ذلك في نفوس كثير من الجُهَّال والطغام، وكثير ممن ينتسب إلى العلم والدين، حتى عادَوا أهل التوحيد ورمَوهم بالعظائم ونفَّروا الناس عنهم، ووالَوا أهل الشرك وعظموهم، وزعموا أنهم أولياء الله وأنصار دينه ورسوله، ويأبى الله ذلك {وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ} [الأنفال:٣٤] انتهى كلام ابن القيم رحمه الله].