فلو كان الخلق يعلمون ذلك لما آثروا الدنيا على الآخرة، ولو كانوا يعقلون لما رغبوا عن دار الحيوان إلى دار اللهو واللعب.
أما الذين يعلمون حال الدارين فلا بدَّ أن يؤثروا الآخرة على الدنيا بالإيمان بالله وطاعته، وبذل كل شيء في سبيل مرضاته.
والهجرة في سبيل الله هجرة نفسية قبل أن تكون هجرة مكانية، والهجرة البدنية مبنية على الهجرة القلبية، فمن هاجر إلى الله ورسوله بالإيمان والعبودية لله، والاقتداء برسوله ولم يتمكن من القيام بذلك هانت عليه الهجرة البدنية، وسهل عليه فراق الأهل والدار والمال، وما يهاجر أحد إلا من أجل هدف.
وهجرة الأنبياء وأتباعهم كانت من أجل إعلاء كلمة الله، وعبادته، والعمل بشرعه، وهم يسيرون في رعاية الله، يحفظهم ويرزقهم، ويوفقهم ويهديهم كما قال إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - {إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (٢٦)} [العنكبوت: ٢٦].
فلما لم يستجب له قومه هاجر من العراق إلى الأرض المباركة في الشام: {وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (٩٩)} [الصافات: ٩٩].
فهاجر - صلى الله عليه وسلم - وترك كل شيء وراءه، ترك أباه وقومه، وأهل بيته ووطنه، وترك وراءه كل عائق وكل شاغل، وهاجر إلى ربه متخففاً من كل شيء، طارحاً وراءه كل شيء، مسلماً نفسه لربه، موقناً أن ربه سيهديه، وسيرعى خطاه.
إنها الهجرة الكاملة من حال إلى حال، ومن وضع إلى وضع، ومن يقين إلى يقين، إنها الهجرة الكبرى التي يختار الله لها الكُمَّل من الناس.
فاتجه إلى ربه الذي أعلن أنه ذاهب إليه، اتجه يسأله الذرية المؤمنة والخلف الصالح: {رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (١٠٠)} [الصافات: ١٠٠].
واستجاب الله دعاء عبده الصالح الذي ترك كل شيء وراءه، وجاء إلى ربه بقلب سليم: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (١٠١)} [الصافات: ١٠١].