فتحنثه وتعبده بغار حراء كان قبل المبعث. ثم إنه لما أكرمه الله بنبوته ورسالته، وفرض على الخلق الإيمان به وطاعته واتباعه، وأقام بمكة بضع عشرة سنة هو ومن آمن به من المهاجرين الأولين الذين هم أفضل الخلق، ولا يذهب هو ولا أحد من أصحابه إلى حراء. ثم هاجر إلى المدينة واعتمر أربع عمر: عمرة الحديبية التي صده فيها المشركون عن البيت -والحديبية عن يمينك وأنت قاصد مكة إذا مررت بالتنعيم عند المساجد التي يقال إنها مساجد عائشة، والجبل الذي عن يمينك يقال له جبل التنعيم، والحديبية غربيه- ثم إنه اعتمر من العام القابل عمرة القضية، ودخل مكة هو وكثير من أصحابه، وأقاموا بها ثلاثا. ثم لما فتح مكة وذهب إلى ناحية حنين والطائف شرقي مكة، فقاتل هوازن بوادي حنين، ثم حاصر أهل الطائف وقسم غنائم حنين بالجعرانة، فأتى بعمرة من الجعرانة إلى مكة، ثم إنه اعتمر عمرته الرابعة مع حجة الوداع، وحج معه جماهير المسلمين، ولم يتخلف عن الحج معه إلا من شاء الله، ولم يشرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته زيارة تلك البقاع والمشاهد وهو في ذلك كله، لا هو ولا أحد من أصحابه يأتي غار حراء، ولا يزوره، ولا شيئا من البقاع التي حول مكة، ولم يكن هناك عبادة إلا بالمسجد الحرام، وبين الصفا والمروة، وبمنى والمزدلفة وعرفات، وصلى الظهر والعصر ببطن عرنة، وضربت له القبة يوم عرفة بنمرة، المجاورة لعرفة.
ثم بعده خلفاؤه الراشدون وغيرهم، من السابقين الأولين، لم يكونوا يسيرون إلى غار حراء ونحوه للصلاة فيه والدعاء.
وكذلك الغار المذكور في القرآن في قوله تعالى: ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ [التوبة: ٤٠] , وهو غار بجبل ثور، يمان مكة، لم يشرع لأمته السفر إليه وزيارته والصلاة فيه والدعاء، ولا بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة مسجدا، غير المسجد الحرام، بل تلك المساجد كلها محدثة، مسجد المولد وغيره، ولا شرع لأمته زيارة موضع المولد ولا زيارة موضع بيعة العقبة الذي خلف منى، وقد بني هناك له مسجد.
ومعلوم أنه لو كان هذا مشروعا مستحبا يثيب الله عليه، لكان النبي صلى الله عليه وسلم أعلم الناس بذلك، ولكان يعلم أصحابه ذلك، وكان أصحابه أعلم بذلك وأرغب فيه ممن بعدهم، فلما لم يكونوا يلتفتون إلى شيء من ذلك علم أنه من البدع المحدثة، التي لم يكونوا يعدونها عبادة وقربة وطاعة، فمن جعلها عبادة وقربة وطاعة فقد اتبع غير سبيلهم، وشرع من الدين ما لم يأذن به الله.
وإذا كان حكم مقام نبينا صلى الله عليه وسلم في مثل غار حراء الذي ابتدئ فيه بالإنباء والإرسال، وأنزل عليه فيه القرآن، مع أنه كان قبل الإسلام يتعبد فيه. وفي مثل الغار المذكور في القرآن الذي أنزل الله فيه سكينته عليه.
فمن المعلوم أن مقامات غيره من الأنبياء أبعد عن أن يشرع قصدها، والسفر إليها لصلاة أو دعاء أو نحو ذلك، إذا كانت صحيحة ثابتة. فكيف إذا علم أنها كذب، أو لم يعلم صحتها.
وأيضا- فإن المكان الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي فيه بالمدينة النبوية دائما، لم يكن أحد من السلف يستلمه ولا يقبله، ولا المواضع التي صلى فيها بمكة وغيرها. فإذا كان الموضع الذي كان يطؤه بقدميه الكريمتين، ويصلي عليه، لم يشرع لأمته التمسح به ولا تقبيله، فكيف بما يقال: إن غيره صلى فيه أو نام عليه؟