وهنا قد يقول قائل: إن المناط في قيام الحجة على المعين مطلقاً هو مجرد بلوغها، ولا فرق في ذلك بين أن يكون عنده شبهة أولا يكون. ومقتضى ذلك ألا يعذر أحد بالشبهة بعد بلوغ الحجة الرسالية.
ويستند من يقول هذا القول إلى أن الله قد حكم بالكفر على من وصفهم بأنهم لا يفقهون، وأنهم لا يعلمون، وأنهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً، ونحو ذلك. ومن ذلك قول الله تعالى: وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا [الإسراء: ٤٦]. وقول الله تعالى:
أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً [الفرقان: ٤٤].
وقوله تعالى: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابَّ عِندَ اللهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ [الأنفال: ٢٢ – ٢٣]. وقوله تعالى: وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ [الأعراف:١٧٩]
[الأعراف: ١٧٩]. وقوله تعالى: قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف: ١٠٣ – ١٠٥]. ونحو ذلك من الآيات مما في هذا المعنى كثيرة.
والجواب أن هذا بحمد الله لا يعارض إعذار المتأول، ويتبين ذلك بوجهين:
الأول: أن هناك فرقاً بين فهم الدلالة وفهم الهداية. فليس كل من بلغته الحجة وفهمها يهتدي بها. لكن الله قد جعل فهم الدلالة شرطاً في تكليف عموم الناس، مؤمنهم وكافرهم، ولم يجعل فهم الهداية والتوفيق إلا لمن أراد لهم ذلك.
فالفهم المشروط في قيام حجة الله على العباد غير الفهم الذي هو مقتضى هداية الله تعالى وتوفيقه. والشبهة التي تتعلق بفهم الحجة غير الشبهة التي هي لعدم الهداية ولو بلغت الحجة، وهذا فرق ظاهر.
يبين ذلك أن الآيات التي قد يستدل بها من لا يفرق بين هذين الأمرين كلها فيما يتعلق بنفي العلم والعقل الذي هو مقتضى الهداية. ولذلك فإن الله كما نفى عمن حكم بكفرهم في تلك الآيات
العلم والفهم، فقد نفى عنهم أنهم يسمعون أو يبصرون. ومعلوم أن السمع والبصر المنفي هنا هو مقتضى الهداية، لا أنهم صم لا يسمعون شيئاً عمي لا يرون شيئاً. فكذلك العقل والفهم المنفي عنهم، هو مقتضى الهداية والتوفيق، لا أنهم مجانين لا يعرفون شيئاً، ولا يفهمون ما يقال لهم.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله في تفسير قوله تعالى: وَلَوْ عَلِمَ اللهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ [الأنفال: ٢٣]. (أخبر سبحانه عن عدم قابلية الإيمان فيهم، وأنهم لا خير فيهم يدخل بسببه إلى قلوبهم، فلم يسمعهم سماع إفهام ينتفعون به، وإن سمعوه سماعاً تقوم به عليهم حجته) (١).
(١) ((شفاء العليل)) لابن القيم (ص: ٩٧).