للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج: ص:  >  >>

ويقول الشيخ عبدالرحمن بن سعدي رحمه الله: (والسمع الذي نفاه الله عنهم، سمع المعنى المؤثر في القلب. وأما سمع الحجة فقد كانت حجة الله تعالى عليهم بما سمعوه من آياته، وإنما لم يسمعهم السماع النافع، لأنه لم يعلم فيهم خيراً يصلحون به لسماع آياته) (١).

ثم يقال أيضاً: إن الشبهة التي تحصل للكافر بل وللمبتدع الضال الذي لم يكفر ببدعته ليست ابتداءً من الله بعبده، بل لا تكون إلا جزاءً على إعراض العبد عن الحق بعد تبينه له وقيام الحجة به عليه. ومعرفة هل الشبهة لأجل عدم الفهم حقيقة أم لأجل عدم الهداية إلى الفهم مما لا يمكن الاطلاع عليه، لأنه أمر باطن لا يعلم، ونحن إنما نحكم على الظاهر، وإذا ثبت أن من حصلت له شبهة من جهة عدم الفهم فهو معذور كان هذا هو الأصل الذي يعتمد عليه في حكم الظاهر، لأنه هو الظاهر.

الثاني: إن من القواعد الشرعية المقررة أن المؤاخذة والتأثيم لا تكون على مجرد المخالفة ما لم يتحقق القصد إليها. والمتأول في حقيقته مخطئ غير متعمد للمخالفة، بل هو يعتقد أنه على حق، وذلك هو قصده ونيته، وقد قال تعالى: وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ [الأحزاب:٥]. وهذا عام في كل خطأ، لأنه يكون عن غير قصد ولا تعمد. وقد جاء في (صحيح مسلم) أنه لما نزل قول الله تعالى: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [البقرة: ٢٨٦] قال الله: (قد فعلت) (٢). فدل هذا على أن من أخطأ أو نسي فإنه غير مؤاخذ لوعد الله له بذلك وعفوه عن عباده. وقال الله تعالى: لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ اللهُ بِاللَّغْوِ فِيَ أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ [البقرة: ٢٢٥]

وفي آية أخرى: وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّم ُالأَيْمَانَ [المائدة: ٨٩] وهذا ليس خاصا بالخطأ في اليمين، بل هي قاعدة عامة في كل خطأ لايمكن العلم بالحق فيه إلا من جهة الحجة الرسالية. فتبين من كل ما سبق أنه لابد قبل الحكم على المعين من التحقق من قصد المعين بضوابطه الشرعية، وأن ذلك ركن مشروط في الحكم عليه مع تحقق المخالفة في الظاهر.

ثم يقال بعد تقرير هذا: إذا كان تحقق القصد إلى المخالفة شرطاً في التأثيم والمؤاخذة، فقد لا يكفي مجرد بلوغ الحجة في إزالة الشبهة، فقد يتأول من عنده شبهة تلك الحجة لتوافق شبهته، غير قاصد تكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم ولا رد الشريعة، ولكنه يظن أن ذلك هو مفهوم الحجة، ومثل هذا معذور إذا تأول، لأنه في الحقيقة مخطئ فكيف يقال مع هذا إن مجرد بلوغ الحجة كاف في قيامها على المعين مطلقاً، وعدم إعذاره إذا كان له شبهة؟

وهذا الذي تقرر من الإعذار بالشبهة، ولو مع بلوغ الحجة إذا تأولها المتأول، بحيث نعلم من حاله أنه غير مكذب لها ولا مستحل مخالفتها هو منهج سلف الأمة وأئمتها، وقد يطلقون القول بكفر من قال كذا، كما أطلق الإمام أحمد رحمه الله القول بكفر من قال بخلق القرآن لكنهم لا يلتزمون بذلك في الحكم على كل معين لأن الكلام في حكم القول من جهة وصفه الشرعي غير الحكم على المعين بذلك الحكم، ولو تلبس بما هو كفر في الشرع ولو لم تكن الشبهة عذراً معتبراً للزوم تكفير المتكلمين بتأويلهم لنصوص الصفات، وحملهم لها على المجاز، وأنها ليست ثابتة لله على الحقيقة، لظنهم أن ذلك يستلزم تشبيه الله بخلقه، فردهم لنصوص الصفات مبني على إرادة التنزيه لله عن مشابهة خلقه حسب ظنهم وعلى هذا فهم لم يريدوا رد تلك النصوص تكذيباً بها.


(١) ((تفسير السعدي)) (٣/ ١٥٥).
(٢) رواه مسلم (١٢٦) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.

<<  <  ج: ص:  >  >>