للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

[- مغالاة الفريقين:]

ومن يتأمّل فيما تقدم من أدلة الفريقين يتضح له أنهما على طرفي نقيض، ورأيي أن كل فريق منهم مبالغ في رأيه، وما استند إليه كل فريق من الأدلة يمكن مناقشته بما يجعله لا ينهض حجة على المدعي.

[مناقشة أدلة الفريق الأول:]

فاستدلال ابن تيمية ومن معه على رأيهم بقوله تعالى: (لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ) [النحل: ٤٤] استدلال غير صحيح، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم- بمقتضى كونه مأمورا بالبيان- كان يبيّن لهم ما أشكل عليهم فهمه من القرآن، لا كل معانيه ما أشكل منها وما لم يشكل.

وأما استدلالهم بما روي عن عثمان وابن مسعود وغيرهما من أنهم كانوا إذا تعلّموا من النبي صلى الله عليه وسلم عشر آيات من القرآن لم يجاوزها حتى يتعلموا ما فيها، فهو استدلال لا ينتج المدعي، لأن غاية ما يفيده، أنهم كانوا لا يجاوزون ما تعلموه من القرآن حتى يفهموا المراد منه، وهو أعم من أن يفهموه من النبي صلى الله عليه وسلم أو من غيره من إخوانهم الصحابة، أو من تلقاء أنفسهم، حسبما يفتح الله به عليهم من النظر والاجتهاد.

وأما الدليل الثالث: فكل ما يدل عليه هو أن الصحابة كانوا يفهمون القرآن ويعرفون معانيه، شأن أي كتاب يقرؤه قوم، ولكن لا يلزم منه


- تطيقه عقول معاصريه، ولو فسّره بالأشياء التي ستوجد في القرن العشرين أو الثلاثين أو الأربعين لتعجب معاصروه أيما تعجب، ولاستعظموه أيما استعظام، لأنه للآن ما زال أناس ينكرون أن الأرض كروية، ولو أنه صلى الله عليه وسلم فسّره على قدر عقل معاصريه ومعلوماتهم الكونية لحجّر علينا ولجمد القرآن، لأنه من يتصدر لتفسير القرآن بعد ذلك سيواجه بأن الرسول فسّره هكذا، وعليك ألا تزيد عن ذلك، ولذلك فرسول الله ترك تفسير القرآن حتى تأخذ كل مرحلة فكرية من لمحات القرآن بقدر ما تستطيع، وذلك في أمور الكونيات، أما المطلوب من الأحكام فقد بينها صلوات الله عليه وأوضحها للناس).

<<  <   >  >>