للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

هَذَا هُوَ السَّبَب الَّذِي من أَجله أورد البُخَارِيّ حَدِيث فضل الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة بعد حَدِيث "لَا تشد الرّحال إِلَّا إِلَى ثَلَاثَة مَسَاجِد.."، أَي أَنه أَرَادَ أَن يبين حِكْمَة الِاسْتِثْنَاء وموجبه، وَأَنَّهَا لَوْلَا ذَلِك لكَانَتْ كَغَيْرِهَا من الْمَسَاجِد وَالْبِقَاع لَا تشد لَهَا الرّحال.

فالقضية - فِي نظر البُخَارِيّ وَأَمْثَاله - قَضِيَّة مَسَاجِد وصلوات، لَا قَضِيَّة أضرحة ومزارات.

وَبعد أَن كتب فَضِيلَة الشَّيْخ مَا تفلسف بِهِ حول صَنِيع البُخَارِيّ الَّذِي فَرغْنَا الْآن من الْكَلَام حوله، نقل كلَاما لِابْنِ حجر مفاده أَن النَّهْي الَّذِي تضمنه حَدِيث "لَا تشد الرّحال.." خَاص بالمساجد والصلوات، دون غَيرهَا من الْبِقَاع والأغراض والعبادات.

وَنحن نناقش فضيلته فِيمَا هُوَ من ابتكاره، وَفِيمَا نَقله عَن غَيره؛ فنبين بحول الله وتوفيقه أَنَّهَا مزاعم مُجَرّدَة عَمَّا يسندها ويشد عضدها من لُغَة أَو شرع؛ فَنَقُول: أَنْتُم معترفون بِأَن حَدِيث "لَا تشد الرّحال.." يَشْمَل الْمَسَاجِد شمولا أوليا مباشرا سوى الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة المستثناة، بل تحاولون أَن تجعلوه خَاصّا مَقْصُورا عَلَيْهَا، فَهَل ترَوْنَ أَن الأضرحة أفضل عِنْد الله من الْمَسَاجِد؟.. أَلَيْسَ الحَدِيث الآخر قد نَص على أَن الْمَسَاجِد هِيَ أحب الْبِقَاع إِلَى الله؟.. وَفِي الْقُرْآن الْكَرِيم {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُو مَعَ اللَّهِ أَحَداً} .. وَفِيه قَوْله تَعَالَى: {فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ} ..

فَكيف سَاغَ لكم وَلمن قلدتموهم أَن تَقولُوا: الْمَمْنُوع زِيَارَة الْمَسَاجِد، دون زِيَارَة الْمشَاهد؟ ‍‍‍‍‍‍‍

بإمكانكم أَن تَقولُوا: لِأَن الْمَسَاجِد يعوض بَعْضهَا عَن بعض؛ فَلَا فرق بَين مَسْجِد وَآخر عدا الْمَسَاجِد الثَّلَاثَة، أما الْقُبُور خَاصَّة قبر النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم فَلَا يعوض بَعْضهَا على بعض، كَمَا أَن الْمَسَاجِد أَيْضا لَا تعوض عَنْهَا لِأَنَّهَا لَيست من جِنْسهَا.

وجوابنا على ذَلِك أَن نقُول:-

إِن الله تَعَالَى جعل الْمَسَاجِد أَمَاكِن لِلْعِبَادَةِ؛ فَيتَوَجَّه الْمُسلم إِلَى مَسْجِد ليؤدى فِيهِ عِبَادَته لرَبه كَمَا أمره سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَكَانَ من السائغ عقلا أَن يكون السّفر إِلَيْهَا فَضِيلَة محمودة لمن يُرِيد أَن يَجْعَل لعدد كَبِير من بيُوت الله نَصِيبا من عِبَادَته، تِلْكَ الْبيُوت الَّتِي أذن الله أَن ترفع وَيذكر فِيهَا اسْمه تبَارك وَتَعَالَى، وَقد قرر الْفُقَهَاء أَن الْمَسْجِد الأقدم وَالْأَكْثَر جمَاعَة والأبعد من منزل الْإِنْسَان أفضل من عَكسه، وَهَذَا مَسْجِد قبَاء قد ثَبت فَضله شرعا، وَمَعَ ذَلِك لم يسْتَثْن مَعَ الْمَسَاجِد المستثناة، أما الْقُبُور فَلم يَجْعَلهَا الله وَرَسُوله أَمَاكِن لِلْعِبَادَةِ، بل على الْعَكْس فقد نهى الرَّسُول صلى الله عَلَيْهِ وَسلم عَن الصَّلَاة فِي الْمَقَابِر، وَجعلهَا من المواقع الَّتِي لَا تصح الصَّلَاة فِيهَا، وَلعن الْيَهُود وَالنَّصَارَى لاتخاذهم الْمَسَاجِد على الْقُبُور محذرا أمته من أَن تحذوا حذوهم، مكررا ومؤيدا حَتَّى آخر لَحْظَة من حَيَاته الشَّرِيفَة، وَلكنه مَعَ هَذَا قد أخبر - عَلَيْهِ السَّلَام - أَن أمته ستحذو حَذْو الْيَهُود وَالنَّصَارَى وتتبع سُنَنهمْ؛ رغم تحذيره ومبالغته فِي النصح والتنبيه، وَمن أبرز سُنَنهمْ الَّتِي حذر الرَّسُول أمته من اتباعها - وَقد اتبعوها - اتِّخَاذ الْقُبُور مَسَاجِد، وَهَذِه مبدؤها الغلو فِي الْقُبُور واتخاذها أعيادا بِكَثْرَة التَّرَدُّد عَلَيْهَا، ثمَّ التَّعَلُّق بِأَهْلِهَا وَتوجه الْقُلُوب إِلَيْهِم ثمَّ دعاؤهم من دون الله، ثمَّ.. ثمَّ.. ثمَّ.. ثمَّ.. الخ.

<<  <   >  >>