فلنعد الآن إلى فن الحريري؛ لنرى ما جاء به متوسطا بين الجانبي؛ ن لنتحقق مصداق (خير الأمور أوساطها) ؛ فهو أفضل حتى في باب التكلف؛ فانظر إلى ما قاله عندما خلط بين ما صنعه في الأبيات الأولى والتالية لها، أي بين ترك النقط كلية والتزام التنقيط، فقد أتى هنا بعد كل كلمة غير منقوطة بأخرى منقوطة فسماها الأبيات الأخياف، أي المختلفة، فقال:
اسمح فبَثُّ السماح زين
ولا تُخِبْ آملا تضيَّف
ولا تُجِزْ ردّ ذي سؤال
فَنَّن أم في السؤال خَفَّف
ولا تظن الدهور تُبقي
مال ضَنين ولو تَقشَّف
واحلم فجَفْنُ الكرام يُغضي
وصدرهم في العطاء نَفنَف
ولا تَخُن عهد ذي وِداد
ثبتٍ ولا تبغ ما تزيّف [٣٨]
فأنت ترى كيف جاء هذا الشعر المتكلف سلسا سهلا واضح المعنى قريبا إلى طرق أبواب القلوب بالنسبة لما سبقه، إذن التوسط خير في كل شيء.
ويلاحظ هنا أيضا أن الحريري مال إلى ذم الدنيا والتنفير منها بقوله:"ولا تبغ ما تزيف"، حيث عبر عنها بما يلازمها وهو الدرهم.
وفي النثر أيضا:
مرت بنا هذه الألوان في الشعر؛ إذن لماذا لا يصنع مثل ذلك في النثر أيضا؟ وهذا هو الذي حدث؛ فلم تفته الفرصة لبيان أو إثبات هذه المقدرة في النثر، وربما زاد عليها كما سنرى من الأمثلة الرمزية التي نسوقها الآن، إذ له رسالتان غير منقوطتين في المقامة الثامنة والعشرين والمقامة التاسعة والعشرين، وأرجو أن تلاحظ معي التزامه السجع والجناس وأحيانا الطباق في الأمثلة التي نوردها لك؛ فإليك بجزء مما ورد في المقامة الأخيرة:(من المنثور غير المنقوط) .