وأما دليل الشجاعة فلم يذكر لنا شاهداً مشهوراً من مواقفه أو وقائعه على أنه يذكر في البيت قبل الختام أن ممدوحه رجل الدولة الأمين وموضع ثقتها وحاميها المقدام، ذكراً عامًا من غير تخصيص:
ت رجالا عن حرمة الخلفاء
٥٣ - قائم باللواء يدفع بالمو
فهل كان فيما ذكر من شواهد الكرم المتصلة بشخص الشاعر قوة للمدح؟.
لاشك أن الدعوى تقوى بقوة الإثبات، والإثبات يدعم الدعوى إذا كان مكافئاً لنوعيتها ودرجتها ومضمونها حتى لا ينخذل عن تأييدها.
وكنا رأينا كرم الممدوح سحاباً يعم البعيد والقريب، ولكن الشاعر ما أطلعنا من عوائد إحسانه إلا على ما خصه به الممدوح. ومن الواضح أن العطية المحدودة المقيدة لا تصلح برهاناً على كرم مطلق غير محدود. ألم يكن من الخير للشاعر لو سكت عن هذا البرهان؟ لقد
بدا الدليل المادي ضئيلاً باهتاً بين يدي الإدّعاء العريض البعيد في الأبيات المتقدمة عليه. ويزيد في ضعفه نوعيةُ الصلة بين الشعراء والممدوحين عموماً فهي قائمة على تبادل المنافع: أفلا تنسف هذه الشبهة القوية الدليل من قواعده؟
ما كان أجدر بشاراً بأن يلغي هذا الدليل المضعوف وقد أنفق في صياغته عشرة أبيات (٣٩ - ٤٨) ، إنه موضع السقم في القصيدة أساء لما قبله وخاس بما بعده.
أو كان يخفى على بشار تخلُّفُ هذا الموضع في قصيدته وهو أبصر أهل عصره في الشعر؟.
ما نظن ذلك ولكن شغله عن تدبر هذه الأبيات العشرة وموازنتها بطرفي المدح جشعٌ غلب عليه، إذ أقبل على ممدوحه وهو يريد فوق الجائزة المالية أعطيات إضافية كان - على ما يبدو - حريصا عليها: منها حصوله على فتى خادم، فدسَّ هذا الطلب في ثنايا المدح المثالي، فهبط هبوطاً ذريعاً. ولو راعى فنه وضبط رغبته، ووازن بين المثال والمطلب لكانت قصيدته أدنى إلى التجانس والتواؤم ما بين القضية والدليل، ما بين السجايا الشاهقة وشواهدها المتواضعة.