وأما الثانية فيكفي من البارق شعاعه، وحسبك من شر سماعه، ويسير التنبيه كاف للنبيه. فقال: لست إلى قراي بذي حاجة، وإذا عزمت فأصالحك على دجاجة، فقلت: ضريبة غريبة، ومؤونة قريبة، عجل ولا تؤجل، وإن انصرم أمد النهار فأسجل. فلم يكن إلا كلا ولا، وأعوانه من القلعة تنحدر، والبشير منهم بقدومها يبتدر، يزفونها كالعروس فوق الرؤوس، فمن قائل أمها البجابيه، وقائل أخوها الخصي الموجه إلى الحضرة العلية. وأدنوا مربطها من المضرب عند صلاة لمغرب، وألحفوا في السؤال وتشططوا في طلب النوال فقلت يا بني اللكيعة، ولو جئتم ببازي بماذا كنت أجازي، فانصرفوا وما كادوا يفعلون، وأقبل بعضهم على بعض يتلاومون حتى إذا سلت لذكاتها المدى، وبلغ من عمرها المدى، قلت: يا قوم، ظفرتم بقرة العين، وابشروا باقتراب اللقاء فقد ذبحت لكم غراب البين. وكانت البلاد الشرقية قد أخلفتها الغيوث وعدت عليها للعدو الليوث، فحيتنا على الشحط، وشكت إلى سعادة مقدمنا معرة القحط. فظهرت مخيلة السعد، فأذن الله في إنجاز الوعد، وقربت غريم الغمائم في المقام أعوان الرعد، فاعترف وسمح وانقاد لحكم القضاء بعد ما جمح. ولم يسلم بكيف ولا حتى، وقضاها المدين في دفع شتى. هذا وإن كان وإنما وإن عزم، وأمده كاد أن ينصرم، فمنفعته بحول الله كبرى، وفيه مآرب أخرى. فتنفس صدر الجو وزفر، وقطب وجهه بعد ما سفر، وسحَّ الغمام وانسكب، وارتكب من أمر الهنا ما ارتكب فلم تجف له قطره، ولا خطرت بباله للصحو خطره، فسئمنا ذلك العارض الهطال، وسهرنا الليل وقد طال، وما راعنا والصبح قد نم من خلف الحجاب، وقضيته قد انتقلت من السلب إلى الإيجاب، والغمام لا يفتر انسكابه إلا السلطان قد ارتحل ركابه. فضربنا بالقباب وجه الصعيد، واستقبلنا طية الغرض لبعيد، نهيم في ذلك الوادي، ونكرع من أطواقنا في غدران الغوادي وقد تهدلت الفروع، وخضلت بالغيث تلك الزروع كأنما أخلفتها الريح فترامت، وسقتها كؤوس السحب حتى سكرت ونامت، والمذانب أمثال الصلال قد تفرعت وكأنما رعناها فانسابت أمامنا وأسرعت، ومخيلة الصحو لا تتوسم والجو تستضحكه بشأننا فلا يتبسم. ومررنا بوادي المنصورة التي نسب الوادي إليها، وعرضت مراكب تياره بين يديها وأطلالها بالية. وبيوتها خاوية خالية، ومسجدها بادي الاستكانة خاضع للبلى على سمو المكانة، فعبرنا واعتبرنا وأبصرنا فاستبصرنا وقول أبي الطيب قد تذكرنا:
أين الذي الهرمان من بنيانه ... ما قومه ما يومه ما المصرع
تتخلف الآثار عن أصحابها ... حينا ويدركها الفنا فتتبع
ثم بدلنا ذلك الوادي بالعراء، واستقبلنا أرضاً شبيهة بالصحراء ملاعب للريح، ومنابت للسدر والشيخ، سحبت بها عين السحاب فضول الذيل، وطفف الغمام في الكيل، وغار النور، وفار التنور، وفاضت السماء، والتقى الماء، فالركائب تسبح سبح الأساطيل، والأرجل تزهق زهوق الأباطيل، والمبارك تعدى، والأدلة لا تهتدي، واللباس قد غير الطين من شكله، والإنسان قد رجع من الماء والحمأ إلى أصله.
وخيمنا في بيره، حرسها الله بالثغر الأقصى ومحل الرباط الذي أجر ساكنه لا يحصى. بلدة عدوها متعقب، وساكنها خائف مترقب، مسرحة بعير ومزرعة شعير، إذا شكرت الوابل، انبتت حبها سبع سنابل، ونجادها بالهشيم قد شابت، وزروعها قد دعا بها الفصل فما ارتابت، ونداء وآتوا حقه يوم حصاده أجابت. أرحنا بها يوماً صحا فيه الجو من سكرته، وأفاق من عمرته، فقيل للنفوس شأنك ودمائك ويا أرض ابلعي ماءك. وتجلت عقيلة الشمس معتذرة عن مغيبها مغتنمة غفلة رقيبها.
ورحلنا من الغد وشمل الأنواء غير مجتمع، والجو قد أنصت كأنه يستمع، بعد أن تمخض الرأي عن زبدته، واستدعي من الأدلاء من وق بنجدته، وكثر المستشار، ووقع على طريق قيشر الاختيار، وانتدب من الفريق، إلى دلالة تلك الطريق، رجل ذو احتيال، يعرف بابن هلال، استقبل بنا شعباً مقفلاً، ومسلكا مغفلاً، وسلما حرج الدرج، سامي المنعرج، تزلق الذر في حافاته، وتراع القلوب لتوقع آفاته، ويتمثل الصراط عند صفاته. أو عار لا تتخلص منها الأوعال، ولا تغنى السنابك فيها ولا النعال. قطعنا بياض اليوم في تسنم جبالها، والتخبط في حبالها، نهوى من شاهق إلى وهد، ونخوض كل مشقة وجهد، كأننا في حلم محموم، أو أفكار مغموم أو برشام نوم.