إلى غير ذلك من أروقة عقدوها، وكرامة أعدوها. وطلعت في سماء البحر أهلة الشواني، كأنها حواجب الغواني، حالكة الأديم، متسربلة بالليل البهيم، تتزاحم وفودها على الشط، كما تتدخل النونات في الخط، فياله من منظر بديع الجمال، أخذ بعنان الكمال، بكر الزمان وآية من آيات الرحمن، حتى إذا هالة القبة استدارت، وبالقمر السعد من وجه السلطان، أبده الله، أنارت، مثلوا فسلموا، وطافوا بركن مقامه واستلموا، وأجهروا بالتلبية، ونظروا، من وجهه الجميل إلى سعد الأخبية، وتزاحم من النساء الأفواج، كما تتدافع الأمواج، فرفع الجناح، وخفض الجناح، ومهد لهن سبيل العطف، وشملهن كنف الإشفاق واللطف. ولما أرحنا واسترحنا، والعيون في تلك البلدة سرحنا، رأينا قيد البصر، والمحاسن التي ترمي اللسان بالحصر، حضرة يستقبل بها الملك، ومربع يلتقي به القطار والفلك، رفعت راية الشرف القديم، وحازت على نظرائها مزية التقديم، ما شئت من ساحة طيبة الأديم، رحيبة كصدر الحليم، متناسبة الوضع بتقدير العزيز العليم، تبرجت تبرج العقلية، ونظرت وجهها من البحر في المرآة الصقيلة.
وركب السلطان أيده الله ثالث يوم وروده إلى مشاهدة قلعتها الشماء، المتعلقة بعنان السماء، فقدح سكانها زناد البارق المتألق، وتلعب صبيانها على جناح الطائر المحلق، وعلى سمو مكانها وجلالة شأنها، فدولابها شجى المزمار، ومياهها في انهمار، وخزائها تستغرق طول الأعمار، وعددها كفيلة لحماية الذمار، فعوذناها من كل خطب فادح، وحيينا بها بهو خيران وقصر ابن صمادح ونظرنا إلى تلك الآثار الكبار، والمشاهدة التي تغنى عن الأخبار، أشرقت العدو بريقه، وسطت بفريقه، وأخذت عليه فيها يد الله ثنايا طريقه، وخص المولى أيده الله قائدها بتشريفه وترفيعه، وتناول بيده الكريمة من صنيعه، في مجلس احتفى واحتفل، وفي حلل الكمال رفل، وأخذت مجالسها الخاصة والكبراء وأنشد الشعراء، فكان مقاماً جليلا وعلى الهمم العربية والشيم الملوكية دليلا.
وكان الرحيل عن تلك المدينة لا عن ملال، ولا عن ذم خلال، ولكن مقام بلغ أمدا، ورحلة انتهت إلى مدى.
أقمنا بها يوماً وثالثاً ... ويوم له يوم الترحل خامس
فيالها من خمسة علقها الدهر تميمة على نحره، وأثبتها معوذة في قرآن فخره. كانت لياليها معطرة النواسم، وأيامها كأيام المواسم.
وثنينا الأعنة إلى الإياب، وصرفنا إلى أوطاننا صدور الركاب، فكم من قلب لرحيلنا وجب، لما استقل ووجب، ودمع لوداعنا عظم انسكابه، لما رمت للبين ركابه، وصبر أصبح من قبيل المحال عند زم الرحال، وإلف أنشد بلسان النطق والحال:
ومضى وخلف في فؤادي لوعة ... تركته موقوتاً على أوجاعه
لم استتم سلامه لقدومه ... حتى ابتدأت عناقه لوداعه
وانصرفنا وعروشها تتعلق بأذيالنا، ومخاضات واديها تعترض صدور رجالنا، ورياحها تدافعنا عن المسير ومعالمها تقنع من إلمامنا ولو باليسير. واستبقبلنا وادي بجانه وما أدراك ما هو، النهر السيال، والغصن المياد الميال، والأفياء والظلال. المسك ما فت في جنباته، والسندس ما حاكته يد جناته، نعمة واسعة، وماجدة جامعة أزرت بالغوطتين زياتينه وأعنابه وسخرت بشعب بوان شعائبه بحيث لا تبدو للشمس آيات ولا تتأتى للحرباء حيات. والريح تلوى أعطاف غصون البان على أرداف الكتان، وتجاذب عرايش الخمائل، فضول الغلائل، إلى مرشانة وهي الكوكب الأعلى، والأشهب المحلي، والصباح إذا تجلى، والعروس على المنصة تجلى، وبها حلت الغيوم سموطها، ومدت عناكب السحاب خيوطها، فبتنا وعيون المزن باكية، والمنازل من توقع فراقنا شاكية واستقبلنا الوادي نجعله دليل تلك الطريق، ونتبعه في السعة والضيق، فكم مخاضة منه عبرنا، وعلى مشقتها صبرنا، حتى قطرت الأذيال والأردان، وشكت أذى الماء الأبدان، وتوفرت ذو الضجر، لملازمة الماء والحجر، ونسينا بمعاناته ألم البعاد، وذكرنا ببرده وإعادته مثلهم في الحديث العاد، اللهم غفراً فضله مديد، ومنظر في الحسن فريد، وقد راق شأنه، وتصاف على الشط سكانه، فرأينا الحور تحت سماط الحور، والنور فوق بساط النور.