للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

فأظلمت عليَّ الأرض، فتأملته فعرفته، فقلت: فلان؟ قال: فلان، قلت: ما وراءك؟ قال: ضاجعت والله رملة الثرى! فما تمالكت أن سقطت عن بعيري، فما أفقت حتى حميت علي الشم، فاستيقظت وقد عقل الغلام بعيري ومضى فكررت راجعاً إلى أهلي بأخيب ما آب به راكب وأنا أقول قول المحروق:

يا راعيَ الضأنِ قد أبقيتَ لي كمداً ... يبقى ويتلفني يا راعيَ الضَّأنِ

نعيتَ نفسي إلى روحي فكيفَ إذاً ... أبقى ونفسي في أثناءِ أكفانِ

لو كنت تعلمُ ما أسأرتَ في كبدي ... بكيتَ مما تراهُ اليومَ أبكاني

١٤٢ - وحدث ابن دريد قال: حدث أبو حاتم قال: سمعت أبا عبيدة يقول: ذكروا أن رجلاً ساءت حاله، فهرب من عياله، فصار إلى ساحل من سواحل البحر، فبينا هو قاعد يفكر في أمره إذ صر بصخرة مكتوب عليها:

لما رأيتكَ قاعداً مستقبلي ... أيقنتُ أنكَ للهموم قرينُ

فارفضْ بها وتعرَّ من أثوابها ... إن كان عندك بالقضاء يقينُ

هوّن عليك يكونُ ما هو كائن ... فأخو التوكلِ شأنهُ التَّهوين

طرحَ الأذى عن نفسِهِ في رزقهِ ... لما تيقَّنَ أنه مضمونُ

قال: فنهض وعاد إلى أهله، وفتح عليه رزقه ودر.

١٤٣ - ولما أنفذ المأمون طاهر بن الحسين إلى قتال ابن ماهان، حضر بين يديه لوداعة فقال له: امض إلى هذا اللعين واصمد له، فإنك قاتله، فأنفذ رأسه إلى أمير المؤمنين بإذن الله ومشيئته! وخرج طاهر لوجهه، فلما أنفذ رأس ابن ماهان إلى المأمون دخل الفضل بن سهل وحل قباءه بين يديه، فأنكر المأمون ذلك عليه، وقال له: ما السبب في هذا الفعل السمج الشنيع، فقال: سمعت أمير المؤمنين يقول لطاهر لما ودعه: "إنك تقتل ابن ماهان وتحمل رأسه إلى حضرة أمير المؤمنين" وقد كان ذاك، وما هذا إلا غيب قد اطلع عليه أمير المؤمنين، إما وحي فاسأل إطلاعي عليه بحكم خدمتي ونصحي ومحبتي، أو علم عند أمير المؤمنين يحزنه عن آبائه وأجداده، أسأل إعلامي به، ولست أعود لخدمتي ولا أشد علي قبائي إلا بعد أن يشرفني أمير المؤمنين بما سألت! فقال له: يا هذا والله ما أعلم الغيب ولا عندي علم محزون منه فأطلعك عليه وأعلمك به، وإنما قلت ما قلت تفاؤلاً حققه الله تعالى بفضله ومنه وإحسانه وطوله! فامتنع الفضل من قبول هذا القول، وأعاد السؤال، وأعاد المأمون القول واليمين، فبعد جهد ما شد قباءه عن غير طيب نفس بقول المأمون، بل على يقين من كتمانه إياه، فقال المأمون: واله لقد سقط من عيني سقطة ما مثلها، وتحققت جهله، واستشعرت فيه ما طرحت معه قوله ورأيه وعقله بعده.

١٤٤ - وكان زياد بن عبيد الله الحارثي خال السفاح والياً له على مكة، فحضر أشعب مائدته في أناس من أهل مكة، وكانت لزياد صفحة يخض به فيها مضيرة من لحم جدي، فأتي بها فأمر الغلام وهو لا يعلم أنها هي فوضعها بين يدي أشعب، فأكلها الشعب واستطابها، واستبطأ زياد الصفحة فقال: يا غلام أين الصفحة؟ قال: أمرتني بتركها بين يدي أبي العلا؟ فقال وقد اغتاظ: هنأ الله أبا العلاء وبارك له؟ فلما رفعت المائدة قال: يا أبا العلاء هذا شهر رمضان وقد وافى، وهو شهر مبارك، وقد رققت لأهل السجن مما هم فيه من الضر وانهجام الصوم عليهم، وقد رأيت أن أسيرك إليهم فتلهيهم بالنهار وتصلي بهم في الليل! فقال: أو غير ذلك أصلح الله الأمير؟ قال: وما هو؟ قال: أعطي الله عهداً ألا آكل مضيرة بلحم جدي أبداً! فخجل زياد واستحيا ونهض، وصار هذا خبر يسطر، وذماً يذكر إلى الأبد!

١٤٥ - وحدثني الرئيس والدي أبو الحسين رضي الله عنه قال: عمل فخر الملك أبو غالب سماطاً عظيماً للأتراك ببغداد، واغترم شيئاً كثيراً، وكان مما يتعذر مثله، وفرح بما تم له فيه، ووف يمشي على السماط، ويخدم الناس، فقال لبعض الأتراك مازحاً معه وقد كسر دجاجة ما بينك وبين هذه المسكينة! فرفع رأسه إليه وقال له: والله ما علمت أنك تراني يا مولانا! ورمى بالدجاجة، وكان يبخل على الطعام، فخجل خجلاً نغص عليه يومه وذمم له فعله، ودخل إلى بعض الحجر، واستدعى خمس قطع ثياباً حسنة وأنفذها إلى دار التركي اسكتفافاً له عن تلك الكلمة التي غلط بها وهفا فيها!.

<<  <   >  >>