للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

دعاني أبو الخير فقلت له: من عندك؟ قال: أبو نواس، على أنه قد حظر على نفسه الشراب وفطمها عنه، ومغنية من أحسن البشر وجها وغناء مالها ببغداد شبيه ولا مدان، فصرت إليه فإذا أبو نواس قد جاء ومعه ذفافه العنسي صاحب خيل هارون الرشيد فتغدينا وقعدنا للشرب فقدمت أشربة لم أر مثلها صفاء ورقة فملت مع أبي الخير إلى أبي نواس فقلت له: إني لأحسب أن تكون ممن لا دنيا له ولا آخرة إنما كان ينبغي ن تفطم نفسك عن الشراب خوف الله تعالى واستدعاء لثوابه لا من خوف محمد، ويحك اشرب معنا ولا تجرع نفسك الفطام عن عادتها فإن ذلك أضر الأشياء بها فوالله لا اطلع على ذلك احد سوانا. فأبى واشمأز وقال: ليس إلى ذلك سبيل وأنشأ يقول:

أيها الرائحان باللوم لوما ... لا أذوق المدام إلا شيما

نالني بالملام فيها إمام ... لا أرى لي ملامه مستقيما

فاصرفاها إلى سواي فإني ... لست إلا على الحديث نديما

كثر حظي منها إذا هي دارت ... أن أراها أو أن أشم النسيما

فكأني وما أحسن منها ... قعدي يزين التحكيما

كل عن حمله السلاح إلى الحر_ب فأوصى المطيق أن لا يقيما ثم قال: ومن محمد؟ ثم أراد أن يقول شيئا وأمسك فتركناه وأخرج أبو الخير الجارية التي عنده فطلعت علينا بوجه لم نر على حسن صورته وكمال بهجته وتمام اعتداله، فبقينا حيارى مبهوتين ننظر إليها تعجبا من براعتها فسلمت وجلست قريبا من أبي نواس فمازحته ساعة وداعبته وخرجت به من الجد إلى الهزل ثم أخذت العود فحركته فخلنا الصنوج والمعازف وجميع انواع الملاهي تقرع ثم إنها اندفعت بحلق كصوت المزمار رقة صوت وشجى نغمة فغنت صوتا اختلست به ألبابنا واستخفنا حتى تزاحفنا عن مواضعنا طربا وماج بعضنا في بعض حتى رأيت ركبة أبي نواس مع ركبتها ثم ثنت وثلتت ووضعت العود فعدنا إلى مواضعنا من المجلس وحثنا الكؤوس سرورا بها واستظرافا لها فقال أبو نواس:

وذات خد مورد ... موهية المتجرد

تأمل العين منها ... محاسنا ليس تنفد

فالحسن في كل جزء ... منها معا يتردد

فبعضه في انتهاء ... وبعضه يتولد

وكلما عدت طرفا ... يكون للعود أحمد

فاشرب على صوت ريم ... ريان غير مصرد

فقلنا: قد أمرتنا بالشراب على هذا الغناء أفلا تأمر نفسك؟ وقلت في نفسي: إن شرب أبو نواس يوما من الدهر ففي هذا اليوم، ثم قال هلا: يا مالكة الحسن، إن نشطت للترنم؟ قالت: إي والله وعزازة وحبا ثم تناولت العود فغنت:

إذا انت لم تعشق ولم تدر الهوى ... فكن حجرا من يابس الصخر جلمدا

فما العيش إلا ما تلذ وتشتهي ... وإن لام في ذو الشنان وفندا

فصاح أبو نواس صيحة ارتج لها البيت ثم قال: احسنت والله، لعن الله من راقب محمدا، علي برطل ولو أن فيه ضرب العنق، فبادر كل واحد منا إلى رطل فناوله إياه فشرب رطلا ثم قال: آخر، فناولناه حتى شرب ثلاثة أرطال فلما شربها انكببنا عليه فقبلنا رأسه وقامت الجارية فقبلت رأسه فقال ونحن حوله:

اسقني واسقي ذفافة ... يا أبا الخير سلافة

واسق رأس اللهو والظر ... ف على عين العيافة

قهوة ذات اختيال ... سلمت من كل آفة

إن يكن غيري قلاها ... لرجاء أو مخافة

هاتها خمرا ودعنا ... من أحاديث خرافة

ضاع بل ذل الذي عن ... ف فيها يا ذفافة

مثل ما ذلت وضاعت ... بعد هارون الخلافة

ثم قال: اكتموا فإني شربت وعصيته وهجوته وإلا كان آخر العهد بيننا. قلنا: لن نحتاج إلى التأكيد علينا في ذلك، قال: أديروا أرطالكم وحثواها، فشربنا في يومنا ذلك ما لم أر أحدا شربه، سرورا بالجارية وشربه معنا، وداومنا ليلتنا شربا حتى فرق بيننا الصبح المفرق ٤٣- أبو هفان قال: حدثني صديق لي يعرف بأبي عبد الله قال: حدثني الحسن بن حسان البرقي قال: حدثني يحيى الثقفي راوية أبي نواس ونديمه قال:

<<  <   >  >>