قوله: "وليلة" مخفوض ب "رب" المقدرة بعد الواو, ومع ذلك فهو مرفوع الموضع بالابتداء, لأن "رب" حرف زائد يدخل على المبتدأ, وجملة "يصطلي" صفة "ليلة". وخبر مبتدأ في قوله:
دعست على غطش وبغش وصحبتي ... سعار وإرزيز ووجر وأفكل.
الدعس هنا: شدة الوطء. والغطش -بالغين المعجمة- الظلام. والبغش -بالغين والشين المعجمتين بعد الموحدة التحتية-: المطر الخفيف. والصحبة-بالضم-الصحابة, الواحد صاحب, والسعار-بالضم-: حر الجوع. والإرزيز-بكسر الهمزة فراء ساكنة فزائين بينهما ياء-: تكمش من البرد. والوجر-بالجيم بين الواو والراء-: الوجل. والأفكل-بفتح الهمزة فسكون الفاء-: الرعدة من خوف أو بردٍ ونحوه.
يقول: ورب ليلة نحس سريت فيها, واطئا الأرض بشدة مع ظلام ومطر. وصحابة- أي الملازمون لي في سراي-جوع شديد, وبرد شديد, وخوف ورعدة منه ومن البرد.
فجملة "وصحبتي" في محل نصب على الحال من الفاعل. و "على" في "على غطش" بمعنى "مع".
فأيمت نسوانا وأيتمت إلدة ... وعدت كما أبدأت والليل أليل.
تأييم النسوة: تصييرهن أيامي, والأيم: التي لا زوج لها. كما أن الأيتام: تصيير الإلدة يتامى. وهمزة الإلدة أصلها واو. والعود: الرجوع, ضد البدء, والإبداء, بدء الشيء وبدأه كابتدائه, فعله: ابتدأ. والليل الأليل: الطويل, كاليوم الأيوم مبالغة في الطول, وهكذا كل وصف لشيء من لفظه.
وقوله: "فأيمت" معطوف على قوله: "دعست" مسبب عنه أي سريت مصاحبا لما ذكر, فتسبب عن ذلك تأييمي نسوانا كثيرة بقتلي أزواجهن. وإيتامي أولادا كثيرين بقتلي آباءهن, ورجعت سالما إلى محلي, عن الحالة التي أبدأت السرى بها, والليل طويل جدا, أي بقي منه بعد عودي كثير.
والمعنى: أنه فعل ما فعل في بعض الليل, وهو وسطه مثلا, وفضل منه عن سراه كثير.
وأصبح عني بالغميصاء جالسا ... فريقان: مسؤول وأخر يسأل.
الغميصاء-بالغين المعجمة مصغرا ممدودا-موضع أوقع فيه خالد بن الوليد رضي الله عنه ببني جذيمة إثر فتح مكة. وفريقان: تثنيه فريق, بمعنى مفارق لغيره, وهو اسم أصبح, و "جالسا": خبرها, وأفرده. ولم يقل: "جالسين" ليطابق "فريقان" لفظا, لأن "فريقان" في معنى جمع مختلف. و "مسؤول" خبر مبتدأ محذوف, أي: فريق مسؤول والآخر يسأل, وهذا تفصيل لإجمال "فريقان" , وأهل المعاني والبديع يسمي مثل هذا المثنى المفسر باسمين على إثره في أخر الكلام توشيعا, وهو في اللغة: لف القطن المندوف, ووجهه أن المثنى-وهو لفظ واحد-لما كان معناه متعدا, كان كلف القطن بعد ندفه. و "عن" في "عني" معناها التعليل, وليست متعلقة ب "مسؤول" و "يسأل" حتى يكون المعنى: فريق مسؤول عني, وفريق سائل عني, لأن المسؤول عنه مبهم, غير معين, بدليل السياق, وتعلقه به يقتضي أن يكون صورة سؤالهم هكذا: أفعل الشنفرى؟ أوألشنفرى فعل هذا؟ وما أشبه ذلك.
ولا يلزم من كون الجلوس في الغميصاء لأجله أن يكون معينا عندهم حتى يقال هذا أيضاً لازم في جعلها للتعليل, لأنا نقول: قوله: "عني" لأجلي, معناه أن الجلوس سببه فعلته هو وسراه في نفس الأمر, ولم يعلموا به, ولم يطلعوا على ما في نفس الأمر من ذلك, فجلسوا مستكشفين عما كان.
ومعنى البيت: وأصبح لأجل فعلتي المنكرة في الغميصاء جمع مختلف جالسا بعضهم مسؤول وبعضهم يسأله. وحكايتهم ما ظنوه سببا لهرير الكلاب عند سماعه لرؤية ما تكرهه قوله:
فقالوا: لقد هرت بليل كلابنا ... فقلنا: أذئب عس أم عس فرعل.
معناه ما قدمناه من حلوسهم للتحدث, والاستخبار عما كان بسبب سراه. أي: فقالوا جميعا, -أو من قال منهم-: لقد هرت كلابنا في الليل هريرا مرددا لم نعلم سببه, فقلنا جميعا-بمعنى أن بعضهم قاله لبعض-فالقائل السائل, والمقول له المسؤول: أذئب عس؟ أي سرى طالبا, أم عس فرعل؟ وهو ولد الضبع. وهذا حكاية لقولهم عند سماعهم الهرير: وهو صوت دون نباح لبرد أو غيره بحسب اعتقادهم, وهو أن سببه أحد أمرين عس الذئب أو الفرعل من غير قطع بأحدهما.
فلم يكن إلا نبأة ثم هومت ... فقلنا: قطاة ريع أم ريع أجدل.
النبأة هنا: صوت الكلاب, أو صوت منبتر لا مادة له, وكذلك أصوات الكلاب. والتهويم: هز الرؤوس من النعاس. وريع: أصابه روع: أي فزع. والأجدل: الصقر.