يقول والأرض واسعة, ففيها ما يبعد العزيز عن الإذلال والإذاية, وفيها أيضاً ما إذا تحول إليه من خاف وبال البغض, وسوء عاقبته سلم وامن. وهذا معنى قول بن أوس المزني:
وفي الناس إن رثت حبالك واصل ... وفي الأرض عن دار القلى متحول
وافهم قوله: "وفي الأرض منأى. . . البيت".
إن الأرض واسعة غير ضيقة على الراغب في الاعتزاز, والراهب من القلى, فأكد هذا المفهوم بقوله:
لعمرك ما بالأرض ضيق على امرئٍ ... سرى راغباً أو راهباً وهو يعقل
لعمرك: -بالفتح-أي لحياتك, وقيل: لدينك.
يقول: لحياتك قسمي ما في الأرض من ضيق على امرئٍ سرى, أي سار ليلا في حالة كونه راغبا في العز مثلا, أو راهبا من عقبى العداوة, وهو يعقل, أي يميز ما رغب فيه, وما رهب منه, فحيثما وجد المرغوب فيه أقام, فتتسع عليه الأرض بوجدان الراحة بإدراكه, وحيثما وجد المرهوب منه رحل, فتتسع عليه الأرض بالخلاص منه, وهذا معنى ضيق الأرض وسعتها, فمرجعه في الحقيقة إلى انقباض النفوس وانشراحها بحسب إدراكها الملائم وغيره كما أفصح به من قال:
لعمركما ضاقت بلاد بأهلها ... ولكن أخلاق الرجال تضيق.
ولي دونكم أهلون سيد عملس ... وأرقط زهلول وعرفاء جيال
الأهلون: جمع أهل, وأهل الرجل: عشيرته, وذوو قرباه, وهو هنا استعارة لما ذكره من السيد-بالكسر-وهو من أسماء الذئب. والعملس بفتح العين المهملة, والميم واللام المشددة-الخبيث من الذئاب. والأرقط: النمر, سمي بذلك لرقطته, وهي سواد مشوب بنقط بيض. والزهلول-بزنة عرجون-الأملس. والعرفاء هنا: الضبع, سميت بذلك لان لها عرفا بضم العين: أي شعرا في عنقها. وجيال: من أسماء الضبع, فهو بدل من عرفاء. وهو على وزن "فيعل" ومعرفة بلا ألف ولا لام, قاله في الصحاح.
ومعنى البيت: ولي دونكم بابني أمي أهلون, أي مؤالفون وحوش القفار والمفاوز, وهم ذئب خبيث, ونمر أملس, وضبع ذات عرف. والمقصود انه اعتاد السفر, وتكرر من قطع المهامه حتى الفته وحوشها فصارت له بمثابة الأهل, أي فلا يؤدني الرحيل, ولا يشق علي السير.
هم الرهط لا مستودع السر شائع ... لديهم ولا الجاني بما جر يخذل.
الرهط: في معنى الأهل. والسر المستودع: الذي أودع, أي جعل وديعة عند الشخص, بمعنى أن من القي إليه يطلب منه كتمانه.
يقول: هم-أي ما ذكر من الوحش-الرهط لا غيرهم, بمعنى أنهم أحق باسم الأهل والرهط من الناس, فإن من استودعهم سرا كتموه فلم يفش عندهم, ومن جنى جناية على احد لم يسلموه إليه بجريرته, فيكون ذلك خذلانا منهم له, فأين هم من المسمين بالأهل, الذين يشيع لديهم مستودع السر, ويخذلون الجاني بما جر فيسلمونه إلى المجني عليه.
وكل أبي باسل غير أنني ... إذا عرضت أولى الطرائد أبسل.
الأبي: الذي يأبى الدنايا, ولا يقبل الضيم, فعله: أبي بالكسر إباء بالكسر أيضاً. والباسل هنا: الأسد, أو الذي بسل بسولا: عبس غضبا أو شجاعة, فهو أيضاً بسل وبسيل. وعرضت: ظهرت. والطرائد: جمع طريدة, بمعنى مطرودة, وهي من الإبل ما يزعج من محله في الغارات.
والمعنى: وكل واحد مما ذكرته من الآهلين حمي الأنف, لا يضام, شديد الكشيمة, لا يرام بهوان, غير أنني اشد إباء لذلك منها, إذا ظهرت الأولى من الإبل التي شلت في الغارة, وتبعها أربابها لاستنقاذها وهم أحرد شيء إذا ذاك, واشد حنقا, يكادون يتميزون من الغيظ علينا, فناهيك بقتالهم, وبشجاعة من يجول في مجالهم, ولا يكترث بنزالهم, ثم قال:
وإن مدت الأيدي إلى الزاد لم أكن ... بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل.
الأجشع - بتقديم الجيم على الشين-الأكثر جشعا, بالتحريك, وهو اشد الحرص وأسوؤه, وان يأخذ الإنسان نصيبه وعينه من نصيب غيره.
يقول: إذا اجتمع الناس على زادهم, ومدوا أيديهم لتناوله, لم أكن أنا أكثرهم عجلا إليه بأن اسبقهم إلى ذلك جميعهم, أما سبق بعضهم فقط, كما إذا سبق بعض الآكلين الجميع فتلاه بعضهم على الفور قبل غيره, فإن ذلك لا يكون عيبا, بل ربما كان من مكارم الأخلاق, لما فيه من رفع الحشمة عن السابق. بما يناسبه بذلك, ولذلك نفى عنه الأعجلية دون مطلق العجل, فإن لا يكون من الزلل, ولا يعد صاحبه مخطئا فيدعى على أمه بالهبل.