ولست بعل شره دون خيره ... ألف إذا ما رعته اهتاج أعزل
العل-بفتح العين المهملة وتشديد اللام-: من يزور النساء كثيراً, ومن تقبض جلده من مرض, والمسن الصغير الجثة. وهذه المعاني صالحة هنا كلها. أما الذي يكثر الزيارة للنساء فإنه يتخلق بأخلاقهن فيكثر شره, ويقل خيره, كالذي تقبض جلده من المرض, فإنه يفسد مزاجه, ويحرج صدره, ولا تسل عن شره وندور خيره.
وأما الثالث فلأن دمامة الخلق- بالفتح- يلازمها ذمامة الخلق في الغالب. وألف-بتشديد الفاء-العيي, البطيء الكلام, إذا تكلم ملأ لسانه فمه, وهو أيضاً الثقيل البطيء المقرون الحاجبين. وكلا المعنيين يعاب به لكونه يدل على نقص باطني. والاهتياج: الثوران, كالهيج والهيجان, والهياج بالكسر. والروع: الفزع. والأعزل: الذي لا سلاح معه.
وجملة "شره دون خيره" في موضع خفت على النعت ل "عل" و "ألف" و "أعزل": نعتان له مقطوعان، أي هو ألف, وهو أعزل, والثاني هو المقطوع, والأول تابع لمتبوعه في الإعراب. والمقصود من هذه النعوت مجرد الذم للمنعوت, على أن الأول وهو: "شره دون خيره" مبين لملازم معنى المنعوت كما أومأنا إليه أنفا, ومعنى: "شره دون خيره" أي شره أدنى الناس من خيره, وضره أقرب إليهم من نفعه, فشره حائل بينه وبين خيره فلا يصلون إليه, وهذا بحسب الدلالة الوضعية.
أما المقصود: فنفي خيره على سبيل المبالغة, لا نفي الوصول إليه مع وجوده, لأن وجود الخير غنما يدرك بنيله والوقوف عليه, وهو متنفٍ بكون الشر دونه, أي لا يعلم فيه خير يشوب شره, ونفع يخالط ضره, وأفهم نفي هذه الأوصاف المذمومة عنه, ثبوت أضدادها المحمودة له, فهو خيره دون شره, قريب البيان, فصيح اللسان, ثبت الجنان, لا يهتاج لقعقعة الشنان, ملازم السلاح, مستعد للكفاح.
ولست بمحيار الظلام إذا انتحت ... هدى الهواجل العسيف يهماء يعمل.
المحيار: الكثير الحيرة. والانتحاء: القصد. اليعمل: الجمل النجيب المطبوع على العمل, والناقة يعملة. واليعمل واليعملة اسمان لا يوصف بهما كما في القاموس.
واليعمل فاعل انتحى. ويروى: "هوجل": وهي الناقة السريعة, وانتحت بتاء التأنيث. والهدى-بضم الهاء وفتح الدال-الرشاد والدلالة, والمراد هنا الطريق والقصد, لأنه يهتدى بالطريق له, والهوجل هنا: الدليل. والعسيف-بكسر العين والسين المشددة المهتملين: الذي يكثر من قطع المفاوز على غير طريق, مبالغة بالعاسف.
"وهدى" منصوب ب "انتحت" على أنه مفعول به, أو مفعول مطلق مرادف لمصدر الفعل, لن المعنى: انتحى انتحاء الهوجل, أو المعنى: اهتدى هداه.
وتقدير البيت: ولست بشخص كثير الحيرة في الظلام, بمعنى يقع التحير منه كثيرا, أي تكثر مراءلته, أو يشتد ما يقع منه من ذلك بحيث لا يجد مخرجا, وقد يقال: لا يحتاج إلى هذا, إذ لا يسمى تحيرا إلا ما كان مثل هذا. أما التوقف الذي يعقبه الاهتداء فليس بحيرة, ولا يذم به صاحبه, وقلما يسلم منه, فلأجل هذا خص النفي بما يدل على الكثرة في ذلك وهو محيار بزنة "مفعال" الذي هو من أمثلة المبالغة في تكثير المعنى, ونفي ذلك عنه أفاد ثبوت ضده له وهو أنه كثير الاهتداء إلى قصد السبيل عند اشتباك الظلام, فلا تعمى عليه المسالك, إذا قصد جمل مطبوع على العمل به قصد الدليل الذي يكثر منه عسف اليهماء: أي المفارزة التي يهيم فيها السالك.
ف "يهماء" -على ما قررنا- مفعول بالعسيف, وأسند على الجمل لأنه هو الذي يسير, فالراكب تابع في القصد للمركوب, والمركوب تابع للراكب في الاهتداء والتحير, ولذلك ما نفى التحير عنه دون الجمل. وهذه من لطائف البلاغة, وأسرار الفصاحة.
وجعل طريق الدليل هدى, لأن من يسلكها يجد عليها هدى, فكان الطريق هدى من الليل الذي سلكها أولا لمن يسلكها بعده.
ويجوز أن يفسر الهدى بالراحة هنا, لاهتداء راكبها بها. ف "هدى" عليه فاعل "انتحت" , و "يعمل" بدل منه, و "يهماء" بالنصب مفعوله.
والتقدير: إذا قصدت راحلة الهوجل العسيف وهي يعمل يهماء.
إذا الأمعز لاقى مناسمي ... تطاير منه قادح ومفلل.
الأمعز: المكان الصلب. والصوان جمع صوانة: ضرب من الحجارة شديد. فالأمعز الصوان: صاحب الصوان. والمناسم جمع منسم: مقدم الخف. والقادح: الذي يقدح النار. والمفلل: المكسر.