للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ص:  >  >>

وتفقه عن شيخي الإسلام البيرمي الثاني والشيخ قاسم المحجوب وغيرهما من علماء جامع الزيتونة وتصدى للتدريس بعد التحصيل، فبنى تعليمه على أصل أصيل، ونهض للتحقيق والتحرير، وسلك مسلك النحارير، فكان لدرسه فخر يذكر، وتدقيق على بساط المعارف ينشر.

وتقدم لإمامة جامع محمد باي المرادي خطيباً وإماماً ومدرساً بعد وفاة الشيخ محمد الترجمان فولّي يوم الثلاثاء تاسع ربيع الثاني سنة ١٢١١ إحدى عشرة ومائتين وألف ولازم به التدريس، وقلّد لبة الألباء در علومه النفيس، وولي مشيخة المدرسة الشماعية عوضاً عن الشيخ محمد البارودي يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شهر رمضان المعظم سنة ١٢١٩ تسع عشرة ومائتين وألف، وأقرأ بها علومه الشرعية.

وقدمه الباشا حمودة لخطة القضاء صبيحة الاثنين يوم عيد النحر من عام ١٢١٩ تسعة عشر ومائتين وألف فأحيا رسومها، وداوى كلومها، وأقام لها بتثبت ودين وفضل، وحكم فصل، ولازمها نحو العشر سنين.

ولما توفي الشيخ أحمد البارودي تقدم للفتيا عوضه في ثاني ذي القعدة الحرام عام ١٢٢٩ تسع وعشرين ومائتين وألف وأفاد السائل، بتحقيق المسائل، وتصدى لبث العلم بالتدريس والتأليف، وقد شرح منظومة المحبي في المذهب الحنفي شرحاً بديعاً.

وهو أول من سن الاجتماع على ختم البخاري بالجامع في شهر رمضان والكتابة على الختم، واستدعى لذلك أمير عصره حمودة باشا، وكان لا يتخلف عن ختمه، وتحضره جميع العلماء وتجري بينهم المباحثة إلى نهاية الدرس وقد وقفت له على ختم بديع ختم به سنة ١٢٢٥ خمس وعشرين ومائتين وألف كتب فيه على باب مشروعية التهجد بالليل أطال فيه البحث مع شيخ الإسلام أبي السعود في تفسيره وحرر فيه مباحث يعز تحريرها على غيره واستدرك التحارير على نجم الأيمة ابن سعيد ما حرر به مبحثاً هاماً من حواشيه على الأشموني. ولمكان نفاسة هذا الختم قرظه العالم الشيخ محمد بن قاسم المحجوب بتقريظ لم نر له غيره من الشعر وهو قوله: [البسيط]

لله هذا الذي قد راق وابتهجا ... ومنهج الحقّ والتحقيق قد نهجا

محكّم النسج لا يخشى معارضة ... لأنه بيد الإتقان قد نسجا

نزهت فكري في أفنان ما غرست ... يد الذكاء [به] مستنشقاً أرجا

لمْ لا وواضعه فردُ الزمان ومن ... بعدله منصبُ الأحكام قد لهجا

قاضي القضاة وفخر العصر منصبه ... من التقدم معروف لكل حجا

أوضحت فيه أبا العباس مجتهدا ... وجه التهجد حتى قام مبتهجا

لا أغمد الله سيفاً أنت مصلته ... من العلوم وفي صدر الحسود شجى

ولا برحت كذا في كل قابلةٍ ... تقلد الختم من أنظاركم حججا

وقد أخبر الشيخ أحمد بن حسين باش مفتي المالكية أنه كان يقرأ عليه مختصر السعد فأورد عليه بعض الحاضرين كلام المطول في ذلك البحث وتوقف فيه، فأخذ الشيخ من يده كراس المطول وتأمل المبحث ملياً ثم قرره وقرر كلام السيد وعبد الحكيم عليه هنالك وزاد تقارير أخر من عنده كأنما كان ذلك هو موضوع الدرس وذلك من غاية تحصيله. وناهيك به من عالم ما شئت من علم ودين وفضل وإنسانية وقناعة وأناة وكرم نفس وتواضع مع علو همة وعدم تصنع، له اليد الطولى في العلوم العقلية والنقلية، وقد نفع بها كثيراً من علماء الحاضرة. وقد تنوقل خبر شرف أصله عن غير واحد من معاصريه في تلك الأيام حتى تواتر ذلك عند نقيب الأشراف في ذلك العصر وكتب كتابة تتضمن ثبوت شرفه لديه وقفت عليها مؤرخة في التاسع والعشرين من المحرم سنة ١٢٥٧ سبع وخمسين ومائتين وألف. ولم أر له من الشعر غير بيتين أجاب بهما أحد أحبته وذلك أنه زار منزل الشيخ محمد المولا فأنشد في ذلك قوله: [الخفيف]

أيها الحبرُ من سما أوج عز ... مثل بدر التمام حل بروجه

زرتني من مودة ذاتِ صدق ... بدم القلب بقد بدت ممزوجة

قلت إذ زرتني: وإنك في تا ... ريخنا: (أنت أحمد بن الخوجة)

فأجاب الشيخ عن ذلك بقوله: [الوافر]

مقام نشرُ عنبره عظيمٌ ... ومنه البدر حسناً مستعيرُ

وأشرق نوره فلذاك قلنا ... وأرّخنا [مقامك مستنير]

<<  <   >  >>