وَالْكُتُبِ وَغَيْرِهِمَا ; لِأَنَّ الْإِيمَانَ بِهِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِنُبُوءَتِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ يَسْتَلْزِمُ الْإِيمَانَ بِجَمِيعِ مَا جَاءَ بِهِ.
( «فَلْيُكْرِمْ جَارَهُ» ) بِالْبِشْرِ، وَطَلَاقَةِ الْوَجْهِ وَبَذْلِ النَّدَى وَكَفِّ الْأَذَى، وَتَحَمُّلِ مَا فَرَطَ مِنْهُ وَنَحْوِ ذَلِكَ.
وَفِي رِوَايَةِ نَافِعٍ عَنْ جُبَيْرٍ عَنْ أَبِي شُرَيْحٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ: " فَلْيُحْسِنْ إِلَى جَارِهِ "، وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: " فَلَا يُؤْذِي جَارَهُ "، وَقَدْ أَوْصَى اللَّهُ بِالْإِحْسَانِ إِلَيْهِ فِي الْقُرْآنِ، وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: " «مَا زَالَ جِبْرِيلُ يُوصِينِي بِالْجَارِ حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّهُ سَيُوَرِّثُهُ» "، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ: فَمَنْ كَانَ مَعَ هَذَا التَّأْكِيدِ الشَّدِيدِ مُضِرًّا لِجَارِهِ كَاشِفًا لِعَوْرَاتِهِ، حَرِيصًا عَلَى إِنْزَالِ الْبَوَائِقِ بِهِ كَانَ ذَلِكَ مِنْهُ دَلِيلًا عَلَى فَسَادِ اعْتِقَادٍ وَنِفَاقٍ، فَيَكُونُ كَافِرًا، وَلَا شَكَّ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَأَمَّا عَلَى امْتِهَانِهِ بِمَا عَظَّمَ اللَّهُ مِنْ حُرْمَةِ الْجَارِ، وَمِنْ تَأْكِيدِ عَهْدِ الْجِوَارِ فَيَكُونُ فَاسِقًا فِسْقًا عَظِيمًا، وَمُرْتَكِبَ كَبِيرَةٍ يُخَافُ عَلَيْهِ مِنَ الْإِصْرَارِ عَلَيْهَا أَنْ يُخْتَمَ لَهُ بِالْكُفْرِ، فَإِنَّ الْمَعَاصِيَ بَرِيدُ الْكُفْرِ، فَيَكُونُ مِنَ الصِّنْفِ الْأَوَّلِ، فَإِنْ سَلِمَ مِنْ ذَلِكَ وَمَاتَ بِلَا تَوْبَةٍ، فَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ، وَقَدْ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ يُبَالِغُونَ فِي رِعَايَتِهِ وَحِفْظِ حَقِّهِ.
حَكَى ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ عَنْ أَبِي حَازِمِ بْنِ دِينَارٍ قَالَ: كَانَ أَهْلُ الْجَاهِلِيَّةِ أَبَرَّ مِنْكُمْ بِالْجَارِ، هَذَا قَائِلُهُمْ قَالَ:
نَارِي وَنَارُ الْجَارِ وَاحِدَةٌ ... وَإِلَيْهِ قَبْلِي يَنْزِلُ الْقَدَرُ
مَا ضَرَّ جَارِيَ إِذْ أُجَاوِرُهُ ... أَنْ لَا يَكُونَ لِبَابِهِ سَتْرُ
أَغُضُّ طَرْفِيَ إِذْ مَا جَارَتِي بَرَزَتْ ... حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي الْخِدْرُ
وَقَالَ آخَرُ:
أَغُضُّ طَرْفِي مَا بَدَتْ لِي جَارَتِي ... حَتَّى يُوَارِيَ جَارَتِي مَأْوَاهَا
قَالَ الْحَافِظُ: وَاسْمُ الْجَارِ يَشْمَلُ الْمُسْلِمَ وَالْكَافِرَ وَالْعَابِدَ وَالْفَاسِقَ وَالصَّدِيقَ وَالْعَدُوَّ وَالْغَرِيبَ وَالْبَلَدِيَّ وَالنَّافِعَ وَالضَّارَّ وَالْقَرِيبَ وَالْأَجْنَبِيَّ وَالْأَقْرَبَ دَارًا وَالْأَبْعَدَ، وَلَهُ مَرَاتِبُ أَعْلَى مِنْ بَعْضٍ، فَأَعْلَى مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ الصِّفَاتُ الْأُوَلُ كُلُّهَا، ثُمَّ أَكْثَرُهَا وَهَلُمَّ جَرَّا إِلَى الْوَاحِدِ، وَعَكْسُهُ مَنِ اجْتَمَعَتْ فِيهِ الصِّفَاتُ الْأُخْرَى، فَيُعْطَى كُلٌّ حَقَّهُ بِحَسَبِ حَالِهِ، وَقَدْ تَتَعَارَضُ صِفَتَانِ فَتُرَجِّحُ أَوْ تُسَاوِي، وَقَدْ حَمَلَهُ ابْنُ عُمَرَ عَلَى الْعُمُومِ، فَأَمَرَ لَمَّا ذُبِحَتْ لَهُ شَاةٌ أَنْ يُهْدَى مِنْهَا لِجَارِهِ الْيَهُودِيِّ، كَمَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي الْأَدَبِ الْمُفْرَدِ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ، وَوَرَدَتِ الْإِشَارَةُ إِلَى مَا ذُكِرَ فِي حَدِيثٍ مَرْفُوعٍ أَخْرَجَهُ الطَّبَرَانِيُّ: " «الْجِيرَانُ ثَلَاثَةٌ: جَارٌ لَهُ حَقٌّ وَهُوَ الْمُشْرِكُ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ، وَجَارٌ لَهُ حَقَّانِ، وَهُوَ الْمُسْلِمُ لَهُ حَقُّ الْجِوَارِ، وَحَقُّ الْإِسْلَامِ، وَجَارٌ لَهُ ثَلَاثَةُ حُقُوقٍ وَهُوَ الْمُسْلِمُ لَهُ رَحِمٌ؛ حَقُّ الْإِسْلَامِ، وَالْجِوَارِ، وَالرَّحِمِ» ، وَالْأَمْرُ بِالْإِكْرَامِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَشْخَاصِ وَالْأَحْوَالِ، فَقَدْ يَكُونُ فَرْضَ عَيْنٍ، وَقَدْ يَكُونُ فَرْضَ كِفَايَةٍ، وَقَدْ يَكُونُ
مشروع مجاني يهدف لجمع ما يحتاجه طالب العلم من كتب وبحوث، في العلوم الشرعية وما يتعلق بها من علوم الآلة، في صيغة نصية قابلة للبحث والنسخ.
لدعم المشروع: https://shamela.ws/page/contribute