للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

- حصر عثمان (١) (شوال سنة ٣٥ هـ/ ٦٥٦ م) :

كان بمصر محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أبي حذيفة يحرِّضان على عثمان، فلما خرج المصريون خرج فيهم عبد الرحمن بن عُدَيْس البَلَويّ (٢) في خمسمائة (٣) فكان أمير الجيش القادم من مصر لحصر عثمان، وفيهم كنانة بن بشر الليثي، وسودان بن حمران السكوني وقُتَيرة بن فلان السكوبيّ، وعليهم جميعاً الغافقي بن حرس العَكِّي وخرج أهل الكوفة وفيهم زيد بن صوحان العبد، والأشتر النخعي، وزياد بن النضر الحارثي، وعبد اللَّه بن الأصم العامري وهم في عدد أهل مصر. وخرج أهل البصرة فيهم حُكَيم بن جَبَلة العبدي (٤) ، وذُرَيح بن عباد، ⦗١٥٢⦘ وبِشر بن شُريح القيسي، وابن المحرَّش، وهم بعدد أهل مصر وأميرهم حرقوص بن زُهَيْر السعدي (٥) .

خرج هؤلاء كالحجاج، وذكر الطبري (٦) أن ابن السوداء خرج من خرَّج من أهل مصر.

أما أهل مصر فإنهم كانوا يشتهون "علياً". وأما أهل البصرة فإنهم كانوا يشتهون "طلحة". وأما أهل الكوفة كانوا يشتهون "الزبير"، فلما كانوا من المدينة على ثلاث، تقدَّم ناس من أهل البصرة فنزلوا ذا خُشُب، وناس من أهل الكوفة فنزلوا الأعْوَص، وجاءهم ناس من أهل مصر، وتركوا عامتهم بذي المَرْوة، ومشى فيما بين مصر وأهل البصرة زياد بن النضر وعبد اللَّه بن الأصم وقالا: لا تعجلوا ولا تعجلونا حتى ندخل لكم المدينة ونرتاد، فإنه بلغنا أنهم عسكروا لنا. فواللَّه إن كان أهل المدينة قد خافونا واستحلوا قتالنا، ولم يعلموا علمنا، فهم إذا علموا علمنا أشد وإن أمرنا هذا لباطل. وإن لم يستحلوا قتالنا ووجدنا الذي بلغنا باطلاً لنرجعن إليكم بالخبر. قالوا: اذهبا، فدخل الرجلان، فلقيا أزواج النبي صلى اللَّه عليه وسلم وعلياً، وطلحة، والزبير. وقالا: إنما نأتمّ هذا البيت ونستعفي هذا الوالي من بعض عمالنا ما جئنا إلا لذلك، واستأذناهم للناس بالدخول، فكلهم أبى ونهى، وقال: بيض ما يفرخن، فرجعا إليهم فاجتمع نفر من أهل مصر فأتوا علياً، ومن أهل البصرة نفر فأتوا طلحة، ومن أهل الكوفة نفر فأتوا الزبير. وقال كل فريق منهم: بايعوا صاحبنا وإلا كدناهم وفرقنا جماعتهم، ثم كررنا عليهم نبغتهم فأتى المصريون علياً وهو في عسكر عند أحجار الزيت متقلداً سيفه، وقد أرسل ابنه الحسن إلى عثمان فيمن اجتمعوا إليه، فسلموا عليه وعرضوا عليه، فصاح بهم وطردهم وقال:

"لقد علم الصالحون أن جيش ذي المروة، وذي خشب والأعوص ملعونون على لسان محمد صلى اللَّه عليه وسلم" فانصرفوا عنه.

وجيش ذي المروة هم المصريون. أما جيش ذي خُشُب فهم أهل البصرة. وأما جيش الأعوص فهم أهل الكوفة. وهذه أماكن بالقرب من المدينة ⦗١٥٣⦘.

وأتى البصريون طلحة، وهو في جماعة أخرى إلى جنب عليّ وقد أرسل ابنه إلى عثمان، فسلم البصريون عليه وعرضوا عليه، فصاح بهم وطردهم وقال لهم مثل ذلك.

وأتى الكوفيون الزبير وهو في جماعة أخرى، وقد سرح ابنه عبد اللَّه إلى عثمان، فسلموا عليه وعرضوا عليه، فصاح بهم وطردهم وقال لهم مثل ذلك.

فرجعوا وتفرقوا عن ذي المروة وذي خشب والأعوص إلى عسكرهم ليتفرق أهل المدينة، ثم رجعوا إليهم، فلما بلغوا عسكرهم تفرَّق أهل المدينة، فرجعوا بهم فلم يشعر أهل المدينة إلا والتكبير في نواحيها ونزلوها وأحاطوا بعثمان. وقالوا من كفَّ يده فهو آمن.

وصلى عثمان بالناس أياماً ولزم الناس بيوتهم، ولم يمنعوا أحداً من كلام فأتاهم الناس فكلموهم وفيهم علي. فقال: ما ردكم بعد ذهابكم ورجوعكم عن رأيكم؟ فقالوا: أخذنا مع بريد كتاباً بقتلنا. وأتاهم طلحة فقال البصريون مثل ذلك. وأتاهم الزبير فقال الكوفيون مثل ذلك. وقال الكوفيون والبصريون: نحن ننصر إخواننا ونمنعهم جميعاً كأنما كانوا على ميعاد.

فقال لهم علي: كيف علمتم يا أهل الكوفة ويا أهل البصرة بملقى أهل مصر؟ وقد سرتم مراحل، ثم طويتم نحونا هذا الأمر. واللَّه إنه أمر أبرم بالمدينة. قالوا: فضعوه على ما شئتم، ولا حاجة لنا في هذا الرجل ليعتزلنا وهو في ذلك يصلي بهم، وهم يصلون خلفه، ويغشى من شاء عثمان وهم في عينه أدق من التراب، وكانوا لا يمنعون أحداً من الكلام، وكانوا يمنعون الناس من الاجتماع.

يلاحظ أن الذين خرجوا لحصر عثمان من الأمصار الثلاثة: مصر والكوفة والبصرة يتراوح عددهم بين ١٥٠٠ و ٣٠٠٠ على أكثر تقدير. فهو ليس جيشاً يصعب على أهل المدينة صده. نقول ذلك وليس لدينا إحصاء عن سكان المدينة في ذلك الوقت نستطيع به أن نعرف منه قدرتها على الدفاع عن الخليفة. كما أننا لم نقف على أمر من عثمان إلى أهل المدينة بالاستعداد للدفاع عنه وردّ هؤلاء المهاجمين. غير أنا وجدنا نص كتابه الذي أرسله إلى الأمصار يستنجدهم فيه، وهو الذي سننشره، ويلاحظ كذلك أن الشاميين لم يرسلوا جيشاً كغيرهم من الأمصار لحصر عثمان، وذلك راجع إلى ما كان من تأثير معاوية في تلك البلاد.


(١) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج ٢/ص ٦٥٠، ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج ٣/ص ٥٣.
(٢) هو عبد الرحمن بن عُدَيْس البَلَوي بن عمرو بن البَلَوي، شجاع، صحابي، ممن بايع تحت الشجرة، شهد فتح مصر، ثم كان قائد الجيش الذي بعثه ابن أبي حذيفة والي مصر إلى المدينة لخلع عثمان، ولما قتل عثمان عاد إلى مصر، فطلبه معاوية بن أبي سفيان وقبض عليه وسجنه في لدّ بفلسطين ففر، فأدركه صاحب فلسطين فقتله. للاستزادة راجع: حسن المحاضرة ج ١/ص ٩١. ابن الأثير، الكامل في التاريخ ج ٣، حوادث سنة ٣٦، الإصابة ترجمة ٥١٥٥.
(٣) وقيل في ألف.
(٤) هو حُكيم بن جَبَلَة العبدي، من بني عبد القيس صحابي، كان شريفاً مطاعاً، من أشجع الناس، ولاَّه عثمان إمرة السند، ولم يستطع دخولها فعاد إلى البصرة، اشترك في الفتنة أيام عثمان، لما كان يوم الجمل أقبل في ثلاثمائة من بني عبد القيس وربيعة، فقاتل مع أصحاب علي، قطعت رجله فأخذها وضرب بها الذي قطعها له، فقتله بها، وبقي يقاتل، ونزف دمه، فجلس متكئاً على المقتول الذي قطع رجله، فمرَّ به فارس، فقال: من قطع رجلك؟ قال: وِسادي! وقُتل في هذه الوقعة سنة ٣٦ هـ.
(٥) هو حُرقوص بن زهير السعدي، الملقب بذي الخويصرة، صحابي من بني تميم، خاصم الزبير فأمر النبي صلى اللَّه عليه وسلم باستيفاء حقه منه، أمره عمر بن الخطاب بقتال الهرمزان، فاستولى على سوق الأهواز ونزل بها، ثم شهد صفين مع علي بعد الحكمين صار من أشد الخوارج على علي، قتل فيمن قُتل في النهروان سنة ٣٧ هـ. للاستزادة راجع: الإصابة ترجمة ١٦٦١، الذريعة ج ١٠/ص ١٩٣، ياقوت ج ١/ص ٤١٢، الكامل للمبرد ص ٥٩٥.
(٦) الطبري، تاريخ الأمم والملوك ج ٢/ص ٦٥٢.

<<  <   >  >>