للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة
<<  <  ص:  >  >>

- رأي الأستاذ المرحوم محمد الخضري بك ومناقشته:

كتب الأستاذ محمد الخضري بك (١) :

"وكل ما نقموه عليه يعني على عثمان أمر لا حرج على الإمام فعلها، منها توليته أقاربه وليس في هذا أدنى عيب، لأن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم ولَّى علياً وهو ابن عمه. ولو كانت تولية القريب عيباً لنهى عنها عليه السلام ولم يفعلها. ومع ذلك فالإسلام سوَّى بين الناس لا قريب عنده ولا بعيد. فالأمر موكول لرأي الإمام الذي ألقيت إليه مقاليد الأمة، فإن ولَّى من حاد عن الدين شكونا إليه، فإن لم يقبل صبرنا كما أمر بذلك رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، لأن شق عصا الجماعة من مصائب الأمم التي تسرع إليها الخراب وليس في الشرع ما يبيح خلع الإمام إلا كفره الصراح".

هذا هو رأي الأستاذ الخضري بك رحمه اللَّه في كتابه المشار إليه فهو ممن يبررون عمل عثمان ويرون أنه اتبع الشرع والسنة. وإنا نقول: إن تولية عثمان أقاربه أحدثت سخطاً عامَّاً، وأخذ السخط يتسع على مرِّ الأيام، وكان في وسعه تجنب ذلك، لكنه رضي اللَّه عنه كان يتوب ويعد بعزلهم، ثم لا يفعل شيئاً. إن عثمان إذاً كان يريد مساعدة أهله وأقاربه برَّاً بهم، فقد كان هناك وسائل غير توليتهم الأمصار الكبيرة التي يشترط فيمن يتولاها الكفاية وحسن السمعة ونقاء الماضي، وكان كثير من الصحابة كما قدمنا حائزين لهذه الصفات والمؤهلات، ومع ذلك ضرب عنهم صفحاً ولم يسند هذه المراكز وقد قيل: من الحكمة وضع الأشياء في مواضعها. فلما ولَّى أقاربه اعترض الناس بطبيعة الحال وامتعضوا ورموه بأنه لم يراع المصلحة العامة، بل راعى أقاربه وقدمهم في الوظائف الكبيرة على من هم أهل لذلك ممن يجلهم ويحترمهم الجمهور، وكان بين هؤلاء الأقارب المتهم في دينه وتقواه. ثم إنه عزل من سبق له الفضل في الفتح لإحلال القريب محله.

وإذا كان الإسلام سوَّى بين الناس لا قريب عنده ولا بعيد فكان الواجب إذن يقضي على الخليفة باختيار من يصلح لا إيثار القريب لقرابته بغض الطرف عن المصلحة العامة التي هي فوق كل مصلحة ⦗٢٠٨⦘.

نعم إن رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم لم يَنه عن تولية القريب لكن على أن يكون هذا القريب شخصاً ممتازاً حكيماً. وهذا ما فعله رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم فإنه باعتراف جميع المؤرخين من عرب وعجم لم يخطئ في تولية أحد القيادة، أو الحكم، فكان عارفاً بأقدار الرجال. وكان عمر رضي اللَّه عنه إذا تبين له أنه لم يوفق في تولية أحد وظهر فيما بعد ضعفه، أو عجزه، أو ارتكب أمراً شائناً عزله في الحال وولى غيره، كي تنتظم الأمور ويقام العدل وتهاب الرعية الوالي. لكن عثمان رضي اللَّه عنه بالرغم من سخط الناس من ولاته واعتراض كبار الصحابة المشهورين بأصالة الرأي وبعد النظر والتقوى ظل متمسكاً بهم إلى النهاية حتى قتل، ولم يعزل غير سعيد بن العاص بعد أن بلغت الفتنة أشدها في الكوفة.

كاتب الناس بعضهم بعضاً في الأمصار، وتبادلوا الرسائل التي تطعن على عثمان وعلى ولاة عثمان، وأخيراً قامت الثورة، وكان جمهور المسلمين قسمين: ثائراً يريد عزل الخليفة، فإن لم يعتزل يقتل، وقسماً غير راضٍ عن سياسته، ويودُّ أن يعتزل حسماً للنزاع وقمعاً للفتنة، لكنه التزم الحياد ولم يبق في صف عثمان غير أهله وأقاربه، حتى قيل: إن عبد الرحمن بن عوف وهو صهره ندم على اختياره خليفة، بل وزاد على ذلك أنه نقض بعض ما عمله عثمان. فقد جاء في الطبري أن إبلاً من إبل الصدقة جيء بها على عثمان فوهبها لبعض ولد الحكم ابن أبي العاص فبلغ ذلك عبد الرحمن بن عوف فأخذها وقسَّمها بين الناس وعثمان في داره. وعلى ذلك كان السواد الأعظم في ذلك إما ناقماً عليه أو غير راضٍ عن خطئه، ولولا ذلك لوجد عثمان من يدافع عنه ويصدّ عنه غارة طائفة خرجت عليه، ولفدوه بأرواحهم بل لما نهض من كل مصر جيش يطالب بخلعه. نعم إن عبد اللَّه بن سبأ كان عاملاً قوياً في نشر الفتنة، لكن عبد اللَّه هذا لم يقدم على نشر دعايته الواسعة النطاق إلا لما علم أن الناس يستمعون له، وأن النفوس مستعدة لقبول كلامه. ولو تصوَّرنا أن عثمان لم يكن يعلم اتجاه الرأي العام ضده لكان معذوراً لكن حصره أربعين أو خمسين يوماً لا يؤيد ذلك، بل الثابت أنه أيقن أخيراً بخطورة الحال لما طال الحصر وأحرقوا بابه وألقوا النار في منزله ومنعوا عنه الماء. إلا أن قتله كان جرماً شنيعاً وخطباً مريعاً، فإن القتلة قد استعجلوا القدر وكان قد بلغ سن الشيخوخة وضعفت قواه، وعلى كل حال لم يبرر أحد قتله، بل عدَّه عقلاء الأمة نكبة عليها وفاتحة للخلاف والانقسام.

وقال الخضري بك (٢) :

"فقد كانوا يعيبون معاوية، وهذا لم يوجده عثمان، بل ولاَّه رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وسلم، وولاَّه أبو بكر، وولاَّه عمر، ولم نرَ من العمال من استمر موثوقاً به من عمر في حياته كلها إلا أفراداً قلائل منهم ⦗٢٠٩⦘ معاوية بن أبي سفيان، فقد كان والياً من أول حياة عمر إلى آخرها، وكانت الشام أعدل ولايات المسلمين وأهدأها".

وإنا نجد الجواب على ذلك في ردِّ عليّ رضي اللَّه عنه حين قال له عثمان: "هل تعلم أن عمر ولَّى معاوية خلافته كلها؟. فقد وليته". فأجابه عليٌّ: "أنشدك اللَّه! هل تعلم أن معاوية كان أخوف من عمر من يرفأ غلام عمر منه؟ قال: نعم. قال عليٌّ: فإن معاوية يقطع الأمور دونك وأنت تعلمها، فيقول للناس: هذا أمر عثمان فيبلغك، ولا تُغَيِّر على معاوية". فسكت ولم يجب.

فمعاوية ما كان يستطيع أن يقطع أمراً وينسبه إلى الخليفة في زمن عمر، لأنه كان يخشاه، كما كان يخشى غلام عمر، لكنه في زمن عثمان كان يفعل ما يشاء لاطمئنانه إليه، فإن اعترض عليه معترض ادَّعى أن ذلك بأمر الخليفة، وكان عثمان إذا بلغه ذلك لم يؤاخذه. فالقول بأن معاوية ولاَّه عمر وأقرَّه طول حياته لا يبرر أعمال معاوية زمن عثمان.


(١) محمد الخضري بك، إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء.
(٢) محمد الخضري بك، تاريخ الأمم الإسلامية" ص ٣٩٥.

<<  <   >  >>